في العصر الحديث، غالبا ما يتم وصف العالم الإسلام والمسيحية كعالمين متعاديين لا يمكن المصالحة بينهما. وإذا كان صوت الإيديولوجيا وحده الذي يتحدث لكان قد ظل هذان العالَمان متواجهين، كل على ضفة حدوده، ولكانا انكفآ على يقيناتهما الخاصة، وما عملا على صنع علاقات فيما بينهما إلا عن طريق المواجهة. غير أن دراسة الوقائع تبيِّن أن الأمر ليس كذلك، وأنه على مر القرون قد تم سماع الكثير من الأصوات المغايرة. هي، بالنسبة للطرفين، أصوات الواقعية السياسية والبراغماتية التجارية والانجذاب نحو الغريب والعجيب وتقليد التكنولوجيا والمعرفة الاستشراقية والتأمل الفلسفي.
لهذا لم تتوقف الدبلوماسية الأوروبية قطّ عند الحدود الفاصلة بين المسيحيين والمسلمين. الواقع أن هذه الحدود عبرها باستمرار في الاتجاهين دبلوماسيون من جميع الأنواع، مبعوثون سِرِّيون أو سفراء، يحملون رسائل ونصوص معاهدات وهدايا قيّمة عند اللزوم. وفي مجال آخر قاد ضغط الواقع المسيحيين والمسلمين إلى وضع إيديولوجيا المواجهة جانبا وتجاوز الحدود البرية والبحرية الفاصلة بسلام: هو مجال التجارة.
هوجم هذا الجدار من العداء والجهل بعنف خلال الفترة الحديثة بثلاث فئات من العلوم، أهدافها منفصلة، غير أنها مع ذلك يؤثر في بعضها البعض. من خلالها ستمر معارفنا حول الشرق الأوسط.
أولا، تجدر الإشارة إلى الرحّالة. في القرن السادس عشر، تعددت قصص الرحلات وغالبا ما كانت تلاقي رواجا كبيرا عندما يتم طبعها. ولم تكن الإمبراطورية العثمانية، أو كما هو دارج تسميتها بتركيا اليوم، هي الوجهة الوحيدة المقدرة (فتن العالم الجديد الزوار كما فتنتهم بلاد فارس والهند، والصين). هؤلاء الرحالة كانوا يلاحظون ويأخذون المعلومات ويحرصون على إعطاء صورة دقيقة لقرائهم عن الواقع الذي يكتشفونه، حتى أن البعض يبدي انفتاحا عقليا ملحوظا.
وهناك فئة أخرى من العابرين إلى الشرق الأوسط يختلفون بنهجهم الخاص عن الرحالة. اهتمت هذه الفئة في المقام الأول بأسس ثقافة الإسلام بشكل عام، وباللغة العربية وبمصادر الإسلام المدوَّنة، بدءا من القرآن. كثير منهم رجال مكاتب لم يسبق لهم زيارة البلدان الآتية منها هذه المخطوطات التي يشتغلون عليها. هم المستشرقون الأوائل الذين بدأ ظهورهم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وقد رأت كلمة ''مستشرق'' النور في اللغة الإنجليزية سنة 1779 وفي الفرنسية سنة 1799، ولم تعترف الأكاديمية الفرنسية بكلمة "الاستشراق" إلا في سنة 1838. لم تكن نواياهم الأولى الدفاع عن الإسلام ولا التقليل من قيمته. كانوا يريدون معرفة المزيد عن الإسلام في الوقت الذي واجه فيه الغرب قوة السلطان التركي (معركة ليبانت في عام 1571، وحصار فيينا في عام 1683). يودون معرفة اللغة العربية، وعلى المستوى نفسه العبرية والآرامية أو السريانية، لغرض تفسير الكتاب المقدس. كان يتعين عليهم أيضا أن يكونوا قادرين على ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية، خاصة للمسيحيين الشرقيين الذين سبقوا الإسلام على هذه الأرض بقرون. أيا كانت الأغراض، تجد المعرفة ضالتها وتصبح غاية العلّامة.
أصبحت معرفة اللغة العربية منذ ذاك مكونا من مكونات الثقافة الإنسانية للنهضة الأوربية. في فرنسا عام 1539، يتلقى غيوم بوستيل، في كوليج روايال، الذي أصبح في وقت لاحق كوليج دو فرانس، لقب القارئ الملكي في "الآداب الإغريقية والعبرية والعربية." إلى جانب التدريس، بدأت تعرف النور أدوات العمل اللازمة من قواعد النحو والقواميس وتحقيقات النصوص، ليس فقط في إيطاليا وفرنسا، لكن أيضا في ألمانيا وهولندا وإنجلترا. إضافة إلى معرفة اللغة العربية، لقيت معرفة الإسلام والتاريخ العربي ازدهارا كبيرا. طبعت أول ترجمة للقرآن في البندقية سنة 1547؛ في 1647، ينشر أندريه دي ريير أول ترجمة فرنسية للقرآن، قرآن محمد؛ وتظهر في 1697، المكتبة الشرقية لبارتيليمي هيربيلو، وهي عبارة عن خلاصة للتاريخ الإسلامي.
من بين صناع هذا الاكتشاف للثقافة العربية الإسلامية، يجب التنبيه على مكانة المترجمين الفوريين (المعروفين بالتروغمان (من ترجمان بالعربية))، هؤلاء المحترفون الموظفون في السفارات والقنصليات الأوروبية على مستوى بلاد الشام. مدربين على اللغات الشرقية في كلية "شباب اللغات" التي أنشئت في إسطنبول في أواخر القرن السابع عشر، نبغ منهم بعض العلماء الكبار مثل: أنطوان غالان (1646-1715) مترجم ألف ليلة وليلة، وجان فرانسوا بيتي دي لاكروا، مؤلف ألف يوم ويوم في عام 1732. شارك هؤلاء التروغمان أيضا في البحوث وجمع المخطوطات والتحف العتيقة، والطُرَفِ الفريدة التي ستثري المقتنيات الملكية ومقتنيات الأفراد، قبل أن تدخل، في غالب الأحوال في التراث الوطني.
في القرن التاسع عشر، راحت الاستشراقية الفرنسية مع سيلفاستر دو ساسي تغزو المكتبات، بل أحيانا تنفرد بها، منصرفة إلى مقاربة لغوية للنصوص التأسيسية، بعيدا بالتالي عن الواقع الحي للإسلام آنذاك. لكن في الوقت نفسه، يزداد عدد الفنانين والموسيقيين والرسامين والشعراء والكُتّاب، الموصوفين بالمستشرقين، يؤلفون أعمالا معنونة غالبا بـ "الشرقية" ويسافرون إلى الشرق. وقد صارت هذه الرحلات ممكنة وسهلة بفضل الرحلات الاستكشافية و البعثات الأثرية، التي تضاف إليها الحملات الاستعمارية.
تدريجيا تم إرساء معارف متخصصة عن العوالم الشرقية، بالإضافة إلى المؤسسات (المدارس والمكتبات والمقتنيات في المتاحف والصحف)، في حين بدأت تتكون الأدوات، اللسانية وغيرها من الوسائل التي تسمح بمعالجة المعارف حول العوالم البعيدة وتعميقها.
يركز هذا المدخل تحديدا على تقديم تاريخ هذه المعارف بمختلف التوجهات والتيارات الفكرية.
الصورة : الأقصر، تفاصيل عن التماثيل الضخمة المنصوبة قرب باب القصر، مأخوذة من منتخب، صور لأعمال لجنة مصر. التحف العتيقة، المجلد الثالث.