ابتداءً من القرن السادس عشر، جعل الغرب من المسيحية الشرقية محورًا للصراعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، وكذلك ساحةً للتنافس السياسي بين القوى المتخاصمة. وقد اضطر المسيحيون الشرقيون إلى تحديد موقفهم من هذه القضايا، فكانوا بذلك من أوائل من تعرّضوا لدخول الحداثة إلى المشرق، قبل مواطنيهم المسلمين بوقت طويل.
تمّ في ما بعد إعتماد الرسائل التقَوِيَّة والفضوليّة التي نشرها اليسوعيّون في القرن الثامن عشر كمصادر لمعرفة العالم خارج أوروبا. فعلى سبيل المثال استعاد شاتوبريان في عبقريّة المسيحيّة وصفًا من رواية بيير بوتيكو اليسوعيّ (1683- 1737) للوادي المارونيّ المقدّس. أظهرت إعادة اصدار سوريا المقدّسة أو إرساليّة المسيح والآباء اليسوعيّين في سوريا (باريس، 1660) للأبّ جوزيف بيسّون في العام 1862 أنّ التّجربة تحت الحكومة الفرنسيّة قبل الثّورة بقيت مرجعًا ينوي يسوعيو الإرساليات الجديدة، والكثير من الرأي العام، تجديد الاهتمام به إلى جانب الثّورة. غير أنّ شاتوبريان خالف في كتابه بيان رحلة من باريس إلى القدس "كتّاب القرن الثّامن عشر الذين ارتضوا إظهار الصليبيين بمظهر قبيح" ليجعل منه على العكس مشهد معركةٍ لأجل الحضارة. فنجد أنّه بعد شاتوبريان تمّت إعادة تبرير تاريخ الحملات الصليبيّة بوصفها كإنجاز للحضارة الأوروبيّة (وبخاصّة الفرنسيّة) وكإثبات للتفوّق الجوهري للمسيحيّة على الإسلام من قِبل مروّجي الحجّ الكاثوليكي إلى الأرض المقدّسة (التي شهدت نمواً ملحوظاً في نهاية القرن التاسع عشر) وكذلك من قِبل موريس بارّيس.
أستغل بعض رجال الدين الموارنة تمجيد الحملات الصليبيّة والحضارة المسيحيّة من اجل طلب حماية "أمتهم" من قبل الفرنسيّين في وجه الدّروز والسلطات العثمانيّة إبّان العنف الطائفيّ في جبل لبنان. تمّ في حينها إنشاء مجموعة تمثيل فرنسيّة-لبنانيّة فاعلة، قامت بصياغة صورة مجمِّلة لفرنسا الحامية ناشرة الحضارة من جهة وكذلك هويّة مسيحيّة كاثوليكيّة شرقيّة أو مارونيّة وطنيّة من جهةٍ أخرى، كلّ ذلك في تشابكٍ من التّنويهات المتبادلة، مثلًا رسالة سيادة مطران صيدا عبد الله بستاني)1847) وكذلك الموارنة بحسب النّصوص بقلم ر.ب. عازار (1852). ولكن كان من الأصعب الإتيان بأسُس تاريخيّة لتبرير الدّعوة إلى حماية فرنسا لكاثوليك بلاد ما بين النّهرين. ومع ذلك فإنّ أدولف دافريل حاول القيام بذلك (الكلدانيّة المسيحيّة، دراسة حول التاريخ الدينيّ والسياسيّ 4186) والأب ب. مارتن (الكلدانيّة، نبذة تاريخية، 1867 في ظلّ توسّعٍ للإرساليّات الكاثوليكيّة الفرنسيّة في الشّرق، واحتمال تفكك محتمل للامبراطورية العثمانيّة.
اصبح المسيحيّون الشرقيّون هدفا بحثيا للدراسات الغربية في القرن السابع عشر، ممّا شكل جدلًا ومنافسةً على الصّعيدين الأكاديميّ والدينيّ شكّل فيه المسيحيّون الشرقيّون طرفًا. أصبحت الأبحاث الشرقيّة المعمّقة مهنة أكاديميّة في الغرب وجزءًا من دراساتها. ووينطبق هذا بشكل خاص على عددٍ من أفراد عائلة السماني اللبنانية.
قام الموارنة كردّ فعل على المؤلّفات التي شكّكت بصحّة معتقدهم بإعداد سردٍ لتاريخهم مبنيٍّ على معتقدهم الخلقيدونيّ الراسخ وإخلاصهم الدّائم للكرسيّ الرسوليّ في روما، ومن الأمثلة على ذلك الموارنة بقلم ب. عازار. وقام سفير فرنسا في القسطنطينيّة المركيز دي نوانتيل بالاستقصاء لدى المسؤولين الكنسيّين الشرقيّين حول إيمانهم بالوجود الحقيقي في سرّ القربان المقدّس، وذلك في أبديّة الإيمان الشهير والذي جاء ردًّا على حجَج البروتستانت التي تنفي ذلك. ولكنّها في الوقت عينه دفعت الشرقيّين إلى طرح المزيد من التّساؤلات حول نظريّاتهم اللّاهوتيّة والإتيان بإجاباتهم الخاصّة عليها.
بينما ركزت الدراسات العربية بشكل شبه حصري على المصادر الإسلامية خلال القرن الثامن عشر، ظلت دراسة المسيحية الشرقية ضمن نطاق التاريخ الكنسي. مكّن مشروع النشر الذي قاده الأب مينييه من نشر مصادر غير مسبوقة، بينما كشف البحث التاريخي عن مصادر جديدة، مُحررة وفقًا لمعايير علمية. انتهز المسيحيون الشرقيون هذه المنشورات لتعميق معرفتهم بماضيهم وتنمية هويتهم الخاصة، في وقت شهد إضفاء طابع عرقي وقومية على الهويات المذهبية. على سبيل المثال، ساهمت كتابات إميل أميلينو في "النهضة القبطية" في ستينيات القرن العشرين، استنادًا بشكل خاص إلى إعادة اكتشاف سير القديسين المصريين. ولكن من الصحيح أن تقدم النقد العلمي، بكتابات مثل كتابات إرنست رينان ثم ألفريد لويزي، أثار تساؤلات جذرية حول التاريخ الكنسي الرسمي، وأجبر الكنيسة الكاثوليكية على مراجعة علاقتها بالماضي
شرح الصورة: كتاب الأحداث الرئيسيّة في تاريخ العالم الدنيويّ ، الجزءالأوّل. جان بار بنكاي، مخطوطة سريانيّة
