كان اكتشاف مخطوطات البحر الميت في أواخر الأربعينات من القرن العشرين أحد المغامرات العلمية الكبرى في القرن العشرين في مجال تاريخ اليهودية ومعرفة بيئة الكتاب المقدس. كان أحد الحرفيين الرئيسيين لهذا الاكتشاف هو الدومينيكاني رولاند دي فو (١٩٧١-١٩٠٣)، عالم الآثار والمتخصص في تاريخ إسرائيل القديمة.
ميل مبكر للتاريخ
ولد رولاند غيرين دي فو في عام ١٩٠٣ في أسرة تعمل في مجال الخدمة المدنية العليا، لديها حساسية قوية تجاه القضايا الاجتماعية. بعد اكمال دراسته الثانوية في مدرسة ستانيسلاس في باريس حيث تعرف على العديد من زملائه الدومينيكيين المستقبلين، دخل معهد سانت سولبيس في Issy-les-Moulineaux ثم انضم إلى دار الرهبان الدومينيكيين في عام ١٩٢٩. وفي الفترة ما بين عامي ١٩٣٠ و١٩٣٣، واصل دراسته الكنسية في المدرسة اللاهوت الدومينيكية في Kain ببلجيكا، حيث أبدى اهتماما خاصا بالتاريخ. في تلك الحقبة كنا في خضم تجديد الدراسات اللاهوتية مع التركيز بشكل خاص على العودة إلى الجذور، وهذا التجديد يمثل السبيل لإخراج اللاهوت من منطق تكرار عقائدي متصلب. لكنه كان مهتمًا جدًا بالكتاب المقدس ولذلك تم إرساله أخيرًا إلى القدس في عام ١٩٣٣ لتعزيز وتجديد فريق البحث الذي شكله لاغرانج قبل الحرب العالمية الأولى. بعد حصوله على رخصة في الدراسات الكتابية والتي أعدها في عامين، عُهد إلى دي فو بتدريس تاريخ الشرق الأدنى القديم وعلم الآثار واللغة الأشروية-البابلية. وكان يعمل بجد ويقبل التحدي، مستفيداً استفادة كاملة من مكتبة مدرسة الكتاب المقدس الممتازة ومن مجموعة العلماء المقيمين هناك. ابتداءاّ من عام ١٩٢٠، تم الاعتراف بهذه المدرسة كمركز فرنسي لدراسة الآثار من قبل أكاديمية النقوش والآداب الجميلة. كما أصبح مديرًا للمجلة الكتابية في عام ١٩٣٨.
من التاريخ إلى علم الآثار
طريقة مدرسة الكتاب المقدس تعتمد على دراسة النص التوراتي عن طريق وضعه في السياق التاريخي والجغرافي لميلاده، دي فو كان غالبا ما يذهب إلى مواقع الحفر وفي عام ١٩٤٤ عهد إليه بموقع الدير البينديكتي أبو غوش. وهو مبنى استخدمه الصليبيون في القرن الثاني عشر ثم تمت استعاته في زمن المماليك. تم نشر التنقيب في عام ١٩٥٩ من قبل الناشر غابالدا. هذا المشروع الأول، المتواضع جداً، فتح الباب لمشاريع أكثر طموحاً: ففي عام ١٩٤٥، عهدت إليه لجنة التنقيب التابعة لوزارة الخارجية الفرنسية بالمسؤولية العلمية لموقع تل الفرح بالقرب من نابلس، وطرح تساؤل ما إذا كان هذا الموقع هو أول عاصمة لمملكة إسرائيل، ترصة القديمة حيث استقر يربعام بعد تقسيم المملكة الشمالية عند وفاة سليمان. وسوف يقوم دي فو بالتنقيب عن الآثار في هذا الموقع الرئيسي لعقد من الزمن، على الرغم من تقلبات الحرب العربية الإسرائيلية في الفترة ما بين عامي ١٩٤٧ و١٩٤٨. أسفرت التنقيبات بسرعة عن نتائج ذات أهمية علمية كبرى.
مغامرة خربة قمران
بينما كان في غمرة عمله وكان مديرا لمدرسة الكتاب المقدس منذ عام ١٩٤٥، تم نشر خبر اكتشاف مثير في نهاية عام ١٩٤٦: بدأ بدو من الأردن ببيع أجزاء من مخطوطات تتضمن نقوش مثيرة للاهتمام. بعد فترة من التشكيك كان فيها علماء مدرسة الكتاب المقدس مرتابون، كان لا بد من مواجهة الواقع : هذه المخطوطات والتي كان أحيانا لفائف أصلية كانت مكتوبة باللغة العبرية التوراتية ويمكن للمرء أن يتعرف فيها على بعض مقاطع من العهد القديم. وسرعان ما أثار الاكتشاف جميع الأنواع من الشهوات، وتم استدعاء دي فو في أوائل عام ١٩٤٩ من قبل لانكستر هاردينغ، رئيس الآثار الأردنية، في محاولة لوقف النهب الوحشي الذي بدأ.
ظهر مقال أول في المجلة الكتابية في أكتوبر ١٩٤٩حيث أظهر حيرة الباحثين في مواجهة أدب قديم لم يكن معروفًا حتى الآن. ثم قامت منافسة شرسة بين الباحثين اليهود وعلماء الآثار من مختلف الخلفيات. مناخ الغموض الذي أحاط بهذا الاكتشاف وشهية تجار التحف لم يكن ليسهل العمل. لم يتمكن دي فو وهاردينغ من السيطرة على الموقع الذي أخرجت منه العديد من المخطوطات وهو وادي مرباط الذي يقع على بعد ٢٥ كم من قمران على ضفاف البحر الميت، إلا في كانون الثاني/يناير ١٩٥٢. وتسارعت الاكتشافات مما اضطر فو إلى مضاعفة الحملات خلال أشهر شباط/فبراير-نيسان/أبريل ١٩٥٣، ١٩٥٤، ١٩٥٦ وحتى أن اضطرتهم أزمة السويس وقف كل شيء حتى كانون الثاني/يناير ١٩٥٨.
وفي الوقت نفسه، حاول دي فو مواصلة حفرياته في تل الفرح حيث قام بعشر حملات بين عامي ١٩٤٦ ١٩٦٠.
عالم مشهور عالمياً
في غضون ذلك، بدأ خبراء مميزون مثل جوزيف ميليك ودومينيك بارتيليمي العمل وكانا رواد الفريق الدولي الذي قام بإعادة تشكيل اللفائف التالفة وفك رموزها وترميما في مباني متحف روكفلر بالقرب من مدرسة الكتاب المقدس.
دعوة الأكاديمية البريطانية في لندن في عام ١٩٥٩ سمحت لرولاند دي فو بتقديم تقرير كمحاولة أولى أبدى من خلالها وجهة نظره حول أصالة وقدم المخطوطات وتاريخ التخلي عنها، وحول مجتمع قمران الذي يعتقد أنه وراءها: هذه المحاضرات المستمرة سمحت لدي فو باكتساب سمعة دولية ولكن أيضا جعلته عرضة لبعض الاتهامات، لأن الموضوع يبقى موضع نقاش كبير، ففي بعض الأحيان اتهم بإخفاء نصوص محرجة للكاثوليكية.
وفي عام ١٩٦٢، انتُخب عضواً في أكاديمية النقوش والآداب الجميلة، وفي الفترة ما بيم عامي ١٩٦٥-١٩٦٤ دُعي ليشغل منصب أستاذ زائر في جامعة هارفارد.
وهو عامل دؤوب واصل تدريس لمادة تاريخ إسرائيل، سيقوم بتلخيص ثماره عمله في عملين رئيسيين: مؤسسات العهد القديم (مجلدين، ١٩٥٨ و ١٩٦٠، ٣٤٧ و ٥٤١ص.) والتاريخ القديم إسرائيل. من أصول إلى منشأة كنعان (غابالدا، ١٩٧١، ٦٧٤ص.) أنه لن يكون قادرا على إكمال.
توفي رولاند دي فو، الذي استخدمه العمل، في ١٠ أيلول/سبتمبر ١٩٧١، عن عمر يناهز ٦٨ عامًا تاركاً وراءه عملاً غير مكتمل ولكن أيضاً ذكرى عالم ضخم مكّن كدحه المتواصل من إحراز تقدم كبير في العلوم في وقت تجددت فيه معرفة بيئة الكتاب المقدس أكثر من أي وقت مضى.