تمّت ممارسة علم الآثار الشّرقيّة منذ ولادته في أوائل القرن التّاسع عشر وحتّى نهاية الحرب العالميّة الأولى على مساحة واسعة تخضع لسلطة الإمبراطوريّة العثمانيّة. فهو إذًا يتعلق بالأناضول فضلا عن مصر ومجمل الشّرق الأدنى. ومع ذلك، فإن الصّلة الوثيقة بين اكتشاف النّقوش المسماريّة في بلاد فارس وتطوير أولى الأعمال الأثريّة فرضا توسّع مجال علم الآثار الشرقيّة باتّجاه إيران.
يندرج تاريخ هذا العلم ضمن سياق سياسيّ دوليّ يحدّد شروط ممارسته وتطوّره. ويستحيل في الواقع تصوّر علم الآثار الشّرقيّة الفرنسيّ بحدّ ذاته وتجاهل المشاريع الّتي تقودها بلدان غربيّة أخرى (ألمانيا وبريطانيا العظمى وروسيا والولايات المتّحدة) بالاتّجاه نفسه ألا وهو استغلال هذا العلم في صراعات النّفوذ والمصالح في ما يخصّ الإمبراطوريّة العثمانيّة والدول التي أبصرت النّور جرّاء انحلالها. ويرتبط علم الآثار الشرقيّة وتطوّره بالوضع السياسيّ للبلدان المعنيّة وبالسّياسة الخارجيّة التي تنتهجها البلدان الغربيّة. وهكذا، فإن بعثة مصر وسوريا الّتي أسّست لعلم المصريّات كانت في المقام الأوّل حملة عسكريّة بقيادة بونابرت لمناوأة اللّعبة الكبرى Great Game البريطانيّة.
كان على علم الآثار الفرنسيّ في الشّرق الأدنى كما شمال أفريقيا أن يتكيّف مع الاضطرابات السياسيّة الّتي عرفتها البلدان حيث كان ناشطًا، كما في الشّرق الأدنى عام 1946 ومصر في عام 1952.
تصميم المقال:
I- فقه اللّغة وعلم الآثار النّاشئ
II- تنظيم علم الآثار الشّرقيّة 1850-1914
III- علم الآثار والسّياسة الشرقيّة في الشّرق الأدنى (1918- 1945)
I- فقه اللّغة وعلم الآثار النّاشئ
يعود اهتمام الأوروبيّين بالشّرق إلى ما قبل القّرن التّاسع عشر بكثير، فنجد تجّارًا ومسافرين وعلماء مغامرين يغذّون فضولهم باكتشافاتهم وقصصهم. ومع ذلك فقد شكّلت نهاية القرن الثّامن عشر منعطفًا هامًّا في معرفة اللّغات والثّقافات الشّرقيّة، عندما أنشئت في عام 1795 مدرسة اللّغات الشّرقيّة الحيّة في باريس والتي سرعان ما أصبحت حاضنة المستشرقين من جميع أنحاء أوروبّا. وبالنّسبة للكليّة الفرنسيّة فقد عيّنت تدريجيًّا محاضرين في الفارسيّة والسنسكريتيّة والعربيّة. أمّا أكاديمية الكتابة والآداب (AIBL) فقد ضمّت في كنفها الغالبيّة الكبرى من المستشرقين وأكّدت على رعاية الأبحاث العلميّة. وعكَس إنشاء الجمعيّة الآسيويّة في عام 1822 إضفاء طابع المؤسّسة الرسميّة تدريجيًّا على أبحاث الحضارات الشرقيّة، وقامت فورًا بإصدار المجلّة الآسيويّة Journal asiatique الّتي لعبت فيما بعد دورًا هامًّا في ازدهار علم الآثار.
كان أغلب العلماء المستشرقين في هذه المؤسسات المرموقة من فقهاء اللّغة وهواة المطالعة الّذين استندوا في أعمالهم على الاكتشافات التي تمّت في الشّرق بأشكال متنوّعة جدّا. ومن الروّاد نلحظ ج.ج. بارتيليمي (1716- 1795)، وزير المال في حكومة الملك، الذي اكتشف الآراميّة مستندًا إلى كتابات من تدمر نقلها الإنكليزيّ ر. وود (حوالي 1717-1771)، ثم فكّ رموز الأبجديّة الفينيقيّة. أما بالنسبة إلى أ.ه أنكتيل دو بيرّون (1731- 1815) فقد كان عالمًا ومغامرًا في آن معًا، اتّجه في عام 1754 إلى الهند وعاد منها وبجعبته Zend Avesta، الكتاب المقدّس للزرادشتيّين، ممّا مهّد الطريق أمام إ. سيلفستر دي ساسي (1758-1838) لتحديد واحدة من اللّغات الثلاث لنقوش رستم المسماريّة مفتتحًا فكّ رموزها. تكشف قصّة هذه المغامرة طابعها الدوليّ البارز، نظرًا لأنّ الدانماركيّ ك. نيبور (1733- 1815) الّذي أرسله ملكه في مهمّة هو مكتشف هذه الكتابات، ثم قام بفكّ رموزها كل من الألمانيّ ج. غروتيفند (1775- 1853) والفرنسيّ أ. بورنوف (1801- 1852) الّذي قدّم لزميله البريطانيّ ه.ك. رولينسون (1810- 1895) نتيجة أبحاثه اللّاحقة.
كان لفقه اللّغة وعلم النّقوش فرصة جديدة للاغتناء بفضل العمل الميدانيّ عندما نُظّمت في العام 1798 حملة مصر وسوريا. كان هذا المزيج من الحملة العسكريّة وبعثة الاستكشاف العلميّ غير مسبوقٍ وخلق نموذجًا تكرّر عدّة مرّات خلال القرن التّاسع عشر في اليونان وشمال أفريقيا وفينيقيا. عندما أنشأ بونابرت معهد مصر واللّجنة المكلّفة إنجاز الوصف Description الشّهير...، فقد أعطى إطارا مؤسّسيًّا لهذا العلم الجديد. لم يتمّ فقط كشف الحضارة الفرعونيّة ولكن تمّ أيضًا توفير مفتاح كتابتها عبر اكتشاف حجر الرشيد الذي مكّن ج.ف. شامبوليون (1790- 1832) من فكّ رموز "النظام الهيروغليفيّ" (1822). بالنسبة لشامبوليون، لم يكن فقه اللّغة ليتقدّم من دون علم الآثار، وباشراكهما في تصوّره للحضارة القديمة شرع في محاولة فهمها عبر دراسة الآثار والتحف الّتي أنتجتها. نظّم في عام 1828 "حملة مصر" فرنسيّة-توسكانيّة جديدة وسلميّة مع . إ. روسيلّيني (1802- 1843)، والّتي بالإضافة إلى طابعها الدوليّ أسّست نموذجًا للبعثة العلميّة البحتة، وتكرّرت بعد وفاة شامبوليون بعشر سنوات مع ك.ر. ليبسيوس (1810-1884) مؤسّس علم المصريّات الألمانيّ.
وتتخّذ البعثة العلميّة شكلًا آخر عندما ترتبط ببعثة دبلوماسيّة؛ مثل تلك الّتي تألّفت من الرّسّام از فلاندين(1803- 1876) والمهندس المعماريّ ب. كوست (1787- 1879) اللّذين رافقا السّفير م. دي سيرسي إلى بلاد فارس، وهو كان مكلّفًا بالتّفاوض لإعطاء فرنسا الحقوق التّجارية نفسها الّتي أُعطيت لبريطانيا العظمى و روسيا. جال الرّجلان لمدة سنتين في بلاد فارس وبلاد ما بين النّهرين، ناسخين نقوشًا وآثار جُمعت في أربع مجلّدات فتحت الطّريق أمام البحوث الأثريّة وكانت بالتّالي نقطة تحوّلٍ في الاستشراق. وكانت هذه البعثة حاسمةً أيضًا لأنّها سمحت بردم الهوّة جزئيا في ما يتعلّق بتأخّر الفرنسيّين عن الإنكليز، وحفّزت الحكومة على ادراك قدرة علم الآثار على لعب دور هامّ في تطوير نفوذ فرنسا في الشّرق. وبعد ذلك فرضت الحاجة إلى استكشاف المواقع الأثريّة والتنقيب نفسها، وكذلك الحاجة لتأكيد وتطوير الوجود الفرنسيّ في الشرق. قررت حكومة لويس فيليب في عام 1842، وبإلهام من رئيس الجمعيّة الآسيويّة المستشرق ج. موهل (1876-1800)، إنشاء وكالة قنصليّة في الموصل أوكلت إلى ب.إ. بوتّا (1870-1802)، مع مشروع استكشاف التلال المحيطة. إلتقى الإنكليزي ه.أ. لايارد (1817-1894)، وهو دبلوماسيّ أيضًا، ببوتّا وخلفه في استكمال العمل في موقعي خورسباد وقيونجيك حيث اكتشف أنقاض نينوى. لم تمنع العلاقات الوديّة التي جمعت الرجلين المنافسة بين دولتيهما. كان بوتّا الأول من سلالة غنيّة من الدبلوماسيّين-علماء الآثار الّذين توالوا على بلاد ما بين النّهرين.
بعد عدّة سنوات من وقف الحفريّات في خورسباد وخوفًا من خسارة الفرنسيّين للإمتياز، تمّ في عام 1851 تعيين ف. بلاس (1818-1875) خلفًا لبوتّا واستأنف الأعمال حتى عام 1854. وأوكل في الوقت نفسه إلى ف. فريزنل (1795- 1855) إدارة البعثة العلمية إلى ميديا وبلاد ما بين النّهرين والّتي انتهت بكارثة، في حين أنّ الإنكليز كانوا يقومون بأعمال في جميع أنحاء بلاد ما بين النّهرين. دعا فريزنل من بغداد حيث قرّر الإقامة حتّى وافته المنيّة، من دون جدوى، إلى إنشاء مدرسة في الشّرق كالّتي أُقيمت في أثينا في عام 1846، بعد أن كان على بيّنة من الشوائب الّتي سادت علم الآثار الشّرقيّة الفرنسيّ. وهكذا التحق ببرنامج الدّراسة الشرقيّة الّذي قدّمه ج. موهل لمكتب البعثات العلميّة والأدبيّة الّذي أنشأته وزارة التّعليم العامّ في عام 1842.
ندين لآخر دبلوماسيّي-علماء الآثار في بلاد ما بين النّهرين، ا. دي سارزيك (1837- 1901)، نائب القنصل في البصرة ومستكشف موقع تلّو ما بين عامي 1877 و1900، بفضل الاكتشاف الكبير لحضارة جديدة، ألا وهي السومريّة. مرة أخرى، واجه الموقع صعوبات كبيرة أثارها المنافسون البريطانيون ومخاطر المهنة الدبلوماسيّة لسارزيك. ممّا أكّد استنتاج ف. فريزنل وأبرز الحاجة إلى منظّمة عالميّة تعنى بالبحوث والتمويل الكافي.
وفيما يتعلّق بسوريا ولبنان وفلسطين، فإن علم الآثار الفرنسيّ كان بطيء التطوّر، في حين كان البريطانيّون والأمريكيّون ناشطون جدًّا. ولم تبدأ التنقيبات الفرنسيّة إلّا في عام 1850 خلال رحلة عالم المسكوكات ف. دي سولسي (1807- 1880) إلى سوريا وفلسطين، فكانت أولى الحفريّات الأثريّة في القدس، مؤسّسًا بذلك لعلم آثار الكتاب المقدّس. وكان دي سولسي مقرّبًا من نابليون الثّالث وساهم بشكل فعّال في وضع "سياسة أثريّة" حقيقيّة.
II- تنظيم علم الآثار الشّرقيّة 1850-1914
اعتبر ا. رينان (1892-1823) ومنذ العام 1848 في كتابه مستقبل العلم L’Avenir de la science بأنّ نواة المنظّمة الّتي عُهد إليها علم الآثار في فرنسا غير كافيةٍ ودعا إلى إنشاء "منظّمة كبيرة للبحث العلميّ". عوضًا عن انشائها، جمع نابليون الثّالث حوله "فريقًا" من العلماء المتخصّصين في التّاريخ الكلاسيكيّ والشرقيّ تحت إشراف ل. رينييه (1885-1809) الّذي أطلق العديد من المشاريع على نطاق واسع. واعتمد بشكلٍ خاصّ على المدرسة الفرنسيّة في أثينا (EFA) التي تأسّست عام 1846 وأصبحت نموذجًا للمدارس والمعاهد التي أنشئت لتشكّل شبكةً حقيقيّة خلال القرنين التّاسع عشر والعشرين في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسّط. وعلى الرغم من تأخّرها في تأكيد نزعتها العلميّة، فقد استقبلت المدرسة الفرنسيّة في أثينا ابتداءً من العام 1855 جيلًا من الأعضاء العازمين على المساهمة في تطوير علوم التّاريخ وبخاصّة علم الآثار. ومن هؤلاء عالما الحضارة اليونانيّة ج. بيرّو (1832- 1914) ول. هيوزي (1831- 1922) اللّذين أوكل إليهما ل. رينييه مهمّتين علميّتين حققتا قفزة نوعيّة في العلوم الفرنسيّة. وفيما إتّجه الثاني إلى مقدونيا، مدّد الأوّل مهمّته في آسيا الصّغرى من خلال زيارة قلعة بوغازكوي الحثّيّة. وكشفت الصور المأخوذة حضارة جديدة من شأنها أن توسع مجال علم الآثار الشرقيّة. امّا من جهتها، فقد عهدت كليّة الكتابة والآداب (AIBL) إلى ل. هيوزي رعاية أعمال ا. دي سارزيك في تلّو، واقتناعا منه "بعودة" اليونان والشّرق، تحول إلى الاستشراق، ودعم الأعمال في تلّو وحصل على افتتاح قسم الآثار الشّرقيّة (1881) في متحف اللوفر، والّذي أشرف عليه.
بموازاة ذلك، استعاد علم المصريّات الفرنسيّ إبتداء من عام 1850 البريق الّذي كان قد منحه إيّاه شامبليون، وذلك بفضل أ. مارييت (1821-1881)، الّتي أثبتت نفسها كعالمة آثار بتصميمها وعملت على تزويد مصر بالمؤسّسات التي لا غنى عنها وغير المسبوقة في بلدان الشرقين الأدنى والأوسط: مديريّة الآثار (1858) ومتحف بولاق (1863). بما أن موت مارييت جاء سريعًا، وحيث أنّ غ. ماسبيرو (1846- 1916) كان الشّخص الّذي من خلاله تم إدخال علم المصريّات إلى الكليّة التطبيقيّة للدّراسات العليا (EPHE التي تأسست في عام 1868) و جامعة السوربون، فقد اقترح في عام 1880 إنشاء مدرسة الآثار الشرقيّة في القاهرة على نموذج مدارس روما وأثينا. نظّم بصفته مدير المدرسة ومديريّة الآثار العديد من الأعمال الأثرّية، وسعى لتوزيعها بين علماء الآثار من مختلف الجنسيّات.
كانت بعثة فينيقيا الشّهيرة آخر البعثات الّتي كلّف بها نابليون الثالث، وأُوكلت إلى ا. رينان في عام 1860. واستنسخت النّموذج الّذي بدأه بونابرت في مصر، حيث أجريت في خضمّ حملة عسكرية على سوريا للدفاع عن المسيحيين ضد الدروز. واستفاد رينان ومعاونوه من مساهمة الجنود في أعمال الحفر. أسّس رينان من خلال نشره بعثة فينيقيا Mission de Phénicie لعلم الآثار الفينيقية وقدّم لعالم العلم مؤلّفًا جوهريًّا حافظ على أهميّته على مرّ عدّة عقود. وعلاوة على ذلك، دعا رينان بعد سقوط الإمبراطوريّة الثّانيّة لإنشاء كرسيّي فقه اللّغة وعلم الآثار الشّرقيّة في الجامعة ودعم بشكل خاصّ تنفيذ مشروع ماسبيرو لمدرسة القاهرة.
وقُدّر لعمل رينان الرّئد أن يكمله دبلوماسيّ. في الواقع، حدّد ش. كليرمون-غانّو (1846-1923)، الّذي عُيّن مترجمًا-مستشارًا في القدس عام 1867، هدفًا وهو التّرويج لعلوم فقه اللّغة والآثار في فينيقيا وفلسطين. فنظّم شبكة من المخبرين واضطلع باستكشافات ممنهجة. ووفّر، دون أن يتمكن من ترك السّلك الدبلوماسيّ، مؤتمر الكليّة التطبيقيّة للدّراسات العليا EPHE حول الآثار الشرقيّة الّذي نُظّم له بدعم من رينان وم. دي فوغي (1829- 1916)، وعاون فيCorpus Inscriptionum Semiticarum تحت إشراف رينان الذي حصل له في عام 1890 على إنشاء كرسيّ علم النّقوش والآثار السّاميّة في الكليّة الفرنسيّة. لعب كليرمون-غانّو شخصيًّا دورًا رئيسيًّا في تشجيع البحوث حول الشّرق الأوسط، مع إدراكه التّام بالحاجة إلى "مركز للبحوث المنهجيّة والمستمرّة" الّذي وضع تصوّرًا له في عام 1882 دون أن يتمّ تحقيقه. في فلسطين، حقّق الأب أ. لاغرانج (1855- 1938) جزئيًّا رغبات كليرمون-غانّو فأسّس المدرسة التطبيقيّة لدراسات الكتاب المقدّس (1890)، مع أنّ القيام بحفريات أثريّة لم يكن من أهدافها.
خضع التّعليم العالي لإصلاح جذريّ بعد الحرب الفرنسيّة البروسيّة في 1870-1871، من خلال إنشاء مؤسّسات جديدة وكراس استاذيّة في الجامعة، والتي استفاد منها خصوصًّا علم فقه اللغة ودراسة النّقوش وعلم الآثار الشرقية. غير أنّ الوضع في عام 1914 لم يكن بعيدًا عن كونه كارثيًّا بالنسبة لعلم الآثار الفرنسيّ في جميع أنحاء الإمبراطوريّة العثمانيّة: موقع تلّو كان الوحيد الّذي لا زال ناشطًا وكان قد أضيف إليه في عام 1913 بعثة ج. كونتنو (1877- 1964) في صيدا والّتي توقفت بسبب إعلان الحرب. في هذا السياق، عظم النفوذ الألمانيّ لدى الباب العالي في حين مارس الإنكليز سيادة غير قابلة للجدل وأثبت الأمريكيّون أنفسهم تدريجيًّا.
في هذه الأثناء، توسّع علم الآثار الشرقيّة الفرنسيّ في بلاد فارس منذ تأسيس وفد علم الآثار الفرنسيّ في عام 1897 والّذي أوكلت إدارته إلى ج. دي مورغان (1857- 1924)، القائم بأعمال مدير إدارة الآثار في مصر منذ عام 1892. وأكمل في ما بعد الأعمال الّتي قام به مارسيل (1844- 1920) وجان (1851- 1916) ديولافوي. تمّ رصد ميزانية كبيرة للوفد وشكّلت أكبر مؤسّسة أثريّة ينظّمها بلد أوروبيّ على الإطلاق. لا يسعنا إلّا التفكير بأنّ ضخامة هذه المبادرة يفسّر جزئيّا "فقر" الوسائل الممنوحة لعلم الآثار في بلاد الشّام وفلسطين وبلاد ما بين النّهرين، كذلك يجب أن تؤخذ بالاعتبار الاستثمارات الكبيرة التي تتطلّبها مدارس القاهرة وأثينا وروما، وعلم الآثار الكلاسيكيّ في فرنسا وشمال أفريقيا.
قلبت الحرب العالميّة الأولى الوضع في الشّرق الأدنى على الصعيد السياسيّ كما على صعيد علم الآثار.
III- علم الآثار والسّياسة الشرقيّة في الشّرق الأدنى (1918- 1945)
سجّل علم اآثار الشّرق الأدنى في عام 1914 تراجعًا وااضحًا أمام علم الآثار الكلاسيكية وعلم المصريّات، التي استفادت من إنشاء مدارس أو معاهد (المدرسة الفرنسيّة في أثينا EFA، المدرسة الفرنسيّة في روما EFR، المعهد الفرنسيّ لآثار الشّرق IFAO) أو إيضًا إدارة الحفريّات (في مصر وشمال أفريقيا)، وللمفارقة فإنّ الحرب العالميّة الأولى ستعوّض عن عجز المؤسّسات في الشّرق الأوسط. وكانت المعالجة أكثر إلحاحًا ممّا حدا بالدّول الغربيّة الأخرى -ألمانيا وبريطانيا والولايات المتّحدة على وجه الخصوص- لتعزيز وجودها في منطقة الشّرق الأوسط ومصر عن طريق مضاعفة المبادرات التي تقودها مؤسّسات متخصّصة وإنشاء Deutsches Institut für Ägyptische Altertumskunde (1897). هدّأ ج. ماسبيرو هذه الحالة من المنافسة المحمومة عبر توجيه مديريّة الآثار نحو التّعاون الدوليّ، معطيًا مثالًا عن التّنقيب الأثريّ المنظّم وعن التّعاون، وهو ما عزّزه الإنتدابان الانكليزيّ والفرنسيّ الّذين أُقرّا بعد عام 1918.
قام الفرنسيّون والإنكليز قبل وأثناء الحرب، إذ كانت الطموحات الألمانيّة تقلقهم، بالإتّفاق في ما بينهم لتحديد مناطق نفوذهم في عام 1912: سوريا لفرنسا وفلسطين والعراق لبريطانيا العظمى، وهو ما أكّدته اتّفاقيّة سايكس بيكو في 16 أيّار (مايو) 1916. قيام الانتدابين الفرنسيّ والإنكليزي في عام 1920 على بلدان الشّرق الأدنى أفضى إلى انطلاقة مذهلة لعلم الآثار، عبر افتتاح المعاهد ومضا++6+1عفة المواقع المنقّبة بفضل الجهد المتضافر ما بين الفرنسيّين والإنكليز والأمريكيّين. منذ العام 1920، وبالرّغم من انشاء المعهد الفرنسيّ للآثار والفن الإسلاميّ في دمشق، فقد جُهّزت سوريا بمديريّة للآثار ووُضعت تحت سلطة المفوّضيّة السّامية، وأوكلت إدارتها إلى عضو المدرسة الفرنسيّة في آثينا EFA عالم الحضارة اليونانيّة ج. شامونار (1865- 1936)، ثم إلى المستشرق ش. فيرولّو (1879- 1968)، والّذي خلفه في عام 1929 ه. سيريغ (1895- 1973)، عالم الحضارة اليونانيّة وعضو المدرسة الفرنسيّة في أثينا EFA. وفي الوقت نفسه، فإن أكاديميّة الكتابة والآداب AIBL الّتي زوّدت بلجنة سوريا وفلسطين، استحوذت على طرح مقدّم من عالم المصريّات المستشرق البريطانيّ مدير قسم الآثار في فلسطين ج. غارستانغ (1876- 1956)، وكان قد اقترح قيام فرنسا بتأسيس المدرسة الفرنسيّة لعلم الآثار في القدس، ضمن أفق التّعاون مع British School of Archaeology الّتي يديرها وAmerican School of Oriental Research (الّتي تأسّست عام 1921) . وهكذا تمّ في عام 1921 تأسيس المدرسة الفرنسيّة للآثار في مدرسة الكتاب المقدّس في القدس. ونظرًا لانعدام امكانيّة افتتاح مواقع أثريّة بسبب عدم كفاية الموارد، فقد تم تطوير طرق البحث في علم النّقوش وتدريس أحدث الطرق في علم الآثار.
تكشّفت في ظل تلك الظروف المشابهة تماما لعلم الآثار في مصر البحوث الأثريّة الدوليّة، وسمحت بإعادة بناء كامل تاريخ الشّرق منذ الألفية الخامسة. انطلاقًا من فرنسا، أصبح ر. دوسّو (1868- 1958) القيّم على قسم الآثار الشّرقيّة في متحف اللوفر وعضو اكاديميّة الكتابة والآداب AIBL المشرف علم الآثار الفرنسيّ في الشّرق الأوسط، مطوّرًا سياسة ناشطة للتّنقيبات ومقترحأ مواقع جبيل ورأس شامرا وماري-تلّ الحريري. ومن جهة أخرى، تم في إيران تعديل الاتفاقيّة الّتي تنظّم عمل الوفد الفرنسي في عام 1928 وتم تأسيس مديريّة للآثار شبيهة بتلك العاملة في الشّرق الأدنى. جرى نزاع على الإدارة ما بين المهندس وعالم الآثار الألمانيّ ا. هرتسفلد (1879- 1948) من جهة والمهندس ا. غودار (1881-1965) من جهة أخرى. فرض الأخير نفسه وسنّ القانون المتعلّق بالاكتشاف والحفاظ على الآثار والمستوحى من ذلك المعمول به في الشّرق الأدنى. وتواصل العمل في سوسة تحت وصاية متحف اللوفر، الذي عهد إلى ر. غيرشمان (1895- 1979) ببعثة في السّهل الإيرانيّ المرتفع حيث اكتُشفت مواقع من حقبة ما قبل التاريخ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتلك الموجودة في الشّرق الأدنى. مع افتتاح المعهد الفرنسيّ للآثار في اسطنبول في العام 1930 وفي بيروت في العام 1946، أصبح علم الآثار الفرنسيّ ممثّلًا في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسّط من المغرب وإسبانيا إلى إيران.
أصبح الشرقان الأدنى والأوسط مختبرًا حقيقيًّا لعلم آثار فرنسيّ تحوّل بفعل التّواصل مع البعثات الأجنبيّة المرتبطة بالاستكشافات الجماعيّة لحقبة ما قبل التاريخ في هذه المناطق. سمحت التّبادلات الثّقافيّة والعلميّة بتأكيد علم آثار مبنيّ على أساليب صارمة في التّنقيب والدّراسة. تمّ تكريس علم الآثار في الشّرق كعلم تمارسه "هيئة" حقيقيّة من المتخصّصين بدعم من مؤسّسات موزّعةٍ ما بين فرنسا والبلدان الخاضعة للانتداب. لم يتبق إلّا الإستجابة لرغبة ا. رينان وتأسيس هيئة اتّحاديّة لجميع المؤسّسات العلميّة، وهو ما تحقّق في عام 1939 عندما تم إنشاء المركز الوطنيّ للبحث العلمي (CNRS). تمثّلت جميع أشكال علم الآثار هنا، مع تبوّء علوم الآثار الكلاسيكيّة والشرقيّة مكانةً متساويةً مهيمنة على ما تبقّى. تمّ في عام 1942 تشكيل لجنتين منفصلتين في المركز الوطني للبحث العلميّ CNRS، الخامس عشر يخصّ "الحفريات الأثريّة في فرنسا" فيما السّادس عشر "الحفريات الأثريّة خارج فرنسا". سلّم المركز الوطنيّ للبحث العلميّ CNRS في عام 1945 دوره كمنسّق لجميع مؤسّسات العمل الأثريّ في الخارج إلى وزارة الشّؤون الخارجيّة، حيث تم إنشاء "لجنة الحفريّات والبعثات الأثريّة"، وفيها قام الدكتور دوسّو بتولّي مسؤوليّة اللّجنة الفرعيّة "الشرق الأدنى / آسيا الغربيّة" وواصل عمله في تطوير علم الآثار الشرقيّة. وأثار في عام 1946 موضوع إنشاء معهد بيروت الذي اقترحه وأصبح مديرًا له ه. سيريغ، عندما انتهت السّلطة الفرنسيّة في سوريا ولبنان وبدأت حقبة جديدة من التعاون المنصف بين المعهد الجديد ومديريّة الآثار السوريّة، لتأمين التدريب لعلماء الآثار المحليّين الشباب والقيام بأعمال مشتركة.
تطوّرت في الوقت نفسه البحوث الأثريّة في فلسطين بدفع من الأب ر. غيران دي فو (1903-1971) مدير المدرسة الفرنسيّة للكتاب المقدس وعلم الآثار في القدس بين عامي 1945 و1965.
أعطت الانتفاضة العسكريّة في مصر عام 1952 إدارة مصريّة لمديريّة الآثار التي كانت حتّى حينه تحت إدارة فرنسيّ. أما بالنسبة إلى المركز الفرنسيّ لآثار الشّرق IFAO فقد علّق نشاطه في عام 1956 خلال أزمة السّويس الّتي أدّت إلى قطع العلاقات الدبلوماسيّة الفرنسيّة المصريّة. ولكن تمّ الحفاظ على التّعاون مع فرنسا من خلال اليونسكو، بطلب من الحكومة المصريّة، لتدريب علماء الآثار وإنشاء مركز الدّراسات والتوثيق لمصر القديمة (CEDAE).
وتتكون هذه المسيرة الطويلة لعلم الآثار الشرقيّة من مراحل عديدة - تخلّلتها أحيانا عقبات – ولكنّها أدّت إلى تشكيل علم حقيقيّ يتمتع بمبادئ وأساليب صارمة، وتحميه مؤسّسات وفّرت له، إضافة إلى سبل التطوّر، كل الفرص لإثبات غايته الإنسانيّة.