عُيّن جوزيف-آرتور دو غوبينو (Joseph-Arthur de Gobineau) لفترة ثلاث سنوات أميناً عاماً لبعثة دبلوماسية إلى بلاد فارس. ولم يكن يستطيع أن يحلم بأفضل من هذه الوجهة. وخلال فترة المراهقة، في منطقة بريتاني الفرنسية، كان شديد الإعجاب بقصص ألف ليلة وليلة.
عُيّن جوزيف-آرتور دو غوبينو (Joseph-Arthur de Gobineau) لفترة ثلاث سنوات، أميناً عاماً لبعثة دبلوماسية إلى بلاد فارس. ولم يكن يستطيع أن يحلم بأفضل من هذه الوجهة. وجاء ذلك مباشرة بعد صدور بحثه حول عدم المساواة بين الأعراق (1853-1855) الذي اعتمد النظرية التي تزعم أنّ المنطقة المجاورة للقوقاز هي مهد العرق الآري. خلال فترة المراهقة، في منطقة بريتاني الفرنسية، كان شديد الإعجاب بقصص ألف ليلة وليلة، وروى عنه أحد أصدقاء طفولته أنّه "لم يكن يحلم إلّا بالجوامع والمآذن، وكان يدّعي أنه مسلم مستعد للحج إلى مكة". وفور وصوله إلى باريس التحق بالمعهد الفرنسي حيث درس اللغة الفارسية على يد المستشرق إتيان-مارك دو كاترومار (Etienne-Marc de quatremère) وبعدها ألّف قصيدة طويلة بعنوان "ديلفيزا" Dilfiza (1837) لم تلقَ نجاحاً. كما حاول تأسيس "مجلة الشرق" (Revue de l’Orient) دون أن ينجح في مسعاه.
ما أن حط الرحال في الشرق، سحره هذا الأخير. وجد أنّ نجوم سماء الشرق مضيئة أكثر مما هي الحال في أوروبا وشكلت السماء هناك، بنجومها، لاسيما في روايته "الثريات" (Les Pléiades)، ، التعبير المجازي عن كرة مرتفعة تتميّز بثبات لم يتأثّر بانحطاط عالم هذه الدنيا. فالمجتمع الفارسي ثابت ويحترم التسلسل الهرمي، على عكس المجتمع الذي، في سنوات ثورة 1848، زاد من حدة كره غوبينو للديمقراطية. والدراويش يمثلون في نظره المتصوّفين الأصيلين في العالم الحديث. كما أنّ الفلسفات الشرقية تناسب طبعه لأنّها لا تفصل الحقيقة عن الخطأ وتنفتح أمام الخيال، وهي بذلك توفّر له الدعم إزاء العلماء المربكين في الغرب الذين استخفوا بوجهات نظره التاريخية وبنظرياته بشأن الأعراق. في الواقع، سرعان ما دفعته التجربة إلى خيبة الأمل فكتب في 15 يناير/كانون الثاني إلى العالِم والفيلسوف الفرنسي توكفيل قائلاً: "ليس هناك عرق فارسي بالمعنى العلمي للكلمة، تماماً كما هي الحال بالنسبة لعدم وجود عرق فرنسي".
كان غوبينو أكثر تسامحاً إزاء عيوب الشرقيين أكثر منه إزاء عيوب الغربيين. وإقامته في الشرق ألهمته لتأليف "ثلاث سنوات في آسيا" Trois ans en Asie) (1859)) وهو كتاب في أدب الرحلة تكمن قيمته في وصف الشرقيين الذين تعرّف بهم خلال رحلته، أكثر منه في وصف المشاهد الاعتيادية، وتضمّن الكتاب حكايات شيّقة وحيوية الكاتب الذي يجادل الذي يزمع أن "يقول للأوروبيين ما هو رأيه بشأن حضارتهم". وقد دفعه طموحه اللغوي إلى نشر نصوص بالأحرف المسمارية (1858) وأعدّ بحثاً حول الكتابات المسمارية (1864)، معتبراً أنّه قد تم جهل القيمة الرمزية لهذا النوع من الكتابة الذي يعود إلى بلاد فارس القديمة. أما الأخصائيين في هذا المجال فقد اعتبروا اكتشافاته خالية من كل أهمية علمية، مما جعله يكرّر دوماً أنّ "العلماء مغفّلون".
عاد إلى طهران من جديد في يناير/كانون الثاني من العام 1862، هذه المرة بصفة وزير مفوّض. وخلال إقامته الثانية تابع تأليف كتاب ضخم بعنوان "تاريخ الفرس" (Histoire des Perses) (1869) حيث شخصية سايروس هي أشبه بشخصية خيّال العصور الوسطى الأمر الذي لم يُقنع المؤرخين المعروفين، وألّف في عام 1865 كتاب "الأديان والفلسفات في آسيا الوسطى" (Religions et philosophies dans l’Asie centrale). رأى أنّ الشرقيين أبعد من أن يضعوا صاحب السيادة في "منافع الحياة المادية والحياة الاجتماعية والسياسية" بل هم "بحاجة لعالم لا يراه الغربيون". ويتضمّن الكتاب اعتبارات ما زالت مفيدة لغاية اليوم، بشأن الحركات الدينية، الشيعية والصوفية والبابية، وكذلك بشأن بقاء المسرح التقليدي في بلاد فارس. بالإضافة إلى ذلك، عمل غوبينو على الترجمة إلى الفارسية لــ"مقال عن المنهج"، كتاب ديكارت المشهور، ليبيّن مدى التباين بين الفلسفات الشرقية والفلسفة الوضعية الديكارتية التي يكرهها. كتب في 20 يوليو/تموز 1862 إلى الكونت دو بروكش-أوستن قائلاً: "لا شك في أنّ الآسيويين يخطئون؛ ولكن لديهم ميزة: العظمة والقوة والجرأة في فرضياتهم". وبتاريخ 20 مارس/آذار اعترف له قائلاً: "أنا أعلم تماماً أنني لدى عودتي إلى أوروبا سوف أبكي آسيا طيلة ما بقي من حياتي". وتيمناً بألف ليلة وليلة، أطلق على أبطال رواية "الثريات" تسمية "الصعاليك الثلاثة أبناء الملك". في عام 1876 ألّف "الحكايات الآسيوية" التي تعبّر بنوع خاص عن حنينه. ثلاث من بين هذه الحكايات تصف بدعابة وحنان عيوب الفرس كما هم حالياً (مراؤون، أطباعهم متقلّبة، مغفلون عن كل ما يلمع)، وعناوين الحكايات الثلاث هي "الساحر المشهور" (l’Illustre Magicien)، "قصة غانبار-علي" (Histoire de Gimbèr-Ali)، "حرب التركمان" (La Guerre des Turcomans). حكايتان أخريان تجيّشان العواطف لدى الأفراد الذين احتموا بجبال القوقاز وأفغانستان، الذين حافظوا على قوة طباعهم ونبل عرقهم الأصلي، وهما حكاية "راقصة شاماخي" (La Danseuse de Shamakha) وحكاية "عشاق كندهار" (Les Amants de Kandahar). ونحن نتساءل، عندما يلجأ إلى أسلوب جهور لامع، هل هو يسخر من الشرقيين أم يتشارك معهم، ولكن هذا الغموض يضفي رونقاً على حكاياته. وآخر حكاية في الكتاب وهي بعنوان "حياة الرحلات" (La Vie de voyage)، تشكل تحويلاً خيالياً لمهمته الأولى حيث رافقته زوجته. وفي كتاب "ثلاث سنوات في آسيا" (Trois ans en Asie) ورد ما يلي: "آسيا طبق يغري كثيراً ولكنّه يسمّم الذين يأكلونه". وبطلة الحكاية "لوسي" (Lucie) التي كانت مريضة طوال الرحلة، لم يمنعها ذلك من التعبير عن "الأحاسيس الأكثر سعادة والأكثر رونقاً التي لا تنتسى" التي شعرت بها.