علاقة ڨولتير بالشرق كانت مميّزة وغنية إلى حد بعيد، وانطبعت ببراديغما "الغربة"، والمرور عبر الآخر للوصول إلى بناء الوعي النقدي للذات.
ڨولتير (Voltaire) كاتب مسرحي اعتُبر في عصره بمثابة الخَلَف الجدير لــ"راسين" (Racine) و"كورناي" (Corneille)، واستفاض في مؤلفاته حول الغرائبية الشرقية. من رواياته "مريم" (Mariamme) (1720) التي تدور في القدس، ومسرحية "زائير" (Zaïre) (1732)؛ "تانيس وزيليد" (Tanis et Zélide) التي تدور في مصر (1733)، والدراما الغنائية "شمشون" (Samson) (1733 كتبها للمؤلف المسرحي "رامو" (Rameau) على ضفة نهر أدونيس (أي نهر ابراهيم) في لبنان، و"زوليم" (Zulime) (1740) في ترمسان أي تلمسان الحالية في الجزائر، ومسرحية "محمد" (Mahomet) (1741) التي تدور في مكة، و"سميراميس" (Samiramis) (1748) في بابل، و"شاوول" (Saȕl) (1763) في عدة مسارح في الشرق الأوسط، و"السكوثيون" (Les Scythes) (1767) في إكباتان بإيران، و"الجَبَر" (Les Guèbres) (1769) في سوريا. وبجانب هذا، المقاطعات اليونانية التي لا سبيل لمقارنتها بما عددناه، ابتداءً من مسرحيته الأولى "أوديب" (Œdipe) (1718) و"أغاتوكل" (َAgathocle) التي صدرت بعد وفاته، ومسرحيات أخرى مثل "ميروپ" (Mérope) (1743) و"إيرين" (Irène) (1778" التي تدور في بيزنطية. وكذلك غرائبية أميركا الجنوبية في مسرحية "ألزير" (Alzire) (1736"، ومسرحية "يتيم الصين" (l’Orphelin de Chine) (1755) التي تدور في بكين، ولكنّه ألّفهما للمناسبة فقط في حين يُعتبر الشرق اللون الأول والأهم لغرائبية مؤلّفات ڨولتير الذي تأثر بقصص الرحلات التي وضعها معلموه الأوائل اليسوعيون، فتمرّس بالأبحاث التاريخية المتعلّة بسائر الأقطار، وتشبّع بقصص ألف ليلة وليلة التي ترجمها "غالان" (Galland).
الشرق، في مفهوم ڨولتير، فلفيّ قبل كل شيء (بالمعنى الشائع في القرن الثامن عشر)، شكّل أهم سبيل للجدل الديني والأخلاقي الذي أطلقه ڨولتير إزاء المركزية الأوروبية بشأن الحضارة المسيحية. ونجد نموذجاً لذلك في الأبيات الشعرية المشهورة الواردة في مسرحية "زائير":
"إن كنتُ قرب نهر الغنج عبدةً للآلهة المزيّفة،
أم مسيحية في باريس، أم مسلمة في هذا المكان".
إن كان اللجوء إلى الآخر يتيح العودة إلى الذات، فهو يؤدي دوماً، لدى كل فرد، إلى إعادة استخراج "الشبيه". والتصادم بين الآخرين يهدف فقط إبراز هوية كل منهم بوضوح، وبفضل السخرية يتيح إعادة اكتشاف مركز شمولي يختبئ وراء الفولكلور الزائد في الأوهام والخرافات. هذه الجدلية سرعان ما شكّلت الهدف في انتقادات عديدة لأنها قامت بهجوم مزدوج، ضد الاختلاف لدى الآخر وضد تجذّر الذات في آن واحد. وابتداءً من الرومنسيين مروراً ببنوية الميدان وصولاً إلى "رولان بارت"، شكّلت مؤلفات ڨولتير نموذجاً في التسامح القائم على تبيان أدنى قاسم مشترك، علماً أنّ ڨولتير استخدم لهجة عنيفة أحياناً، في شكل سطحيّ وثقيل لنوع من الامبريالية اللاواعية. هناك تناقض في العيش المشترك ينمو على مبدأ حذف الفوارق، وهو شكّل دون شك نوعاً من المفهوم الفرنسي للعلمانية، وما زال يمثّل لغاية أيامنا هذه مصدراً للتساؤل ولعدم الفهم.
تبدو مسرحية "محمد" التي ألّفها ڨولتير، بمثابة تعبير بامتياز عن هذه التوترات. هي قناع للمسيحية غير المتسامحة في ذلك العصر، تم رفض تعصّب نبي الإسلام باعتباره خاطئ وغير عادل بحسب الاعتبار الألماني، بما فيه من جانب الفيلسوف "غوت" (Goethe) رغم أنّ هذا الأخير هو الذي ترجم نص المسرحية وأخرجها في مقاطعة "وايمر" (ألمانيا). واعتُبرت أحياناً مسرحية هجائية ضد الإسلام رغم أنّ ڨولتير كتب بشكل أكثر إيجابية حول هذه الديانة كما في "رسالة حول التقاليد" (L’essai sur les Mœurs) (1756) التي شكّلت "التاريخ العالمي" وهي تُعتبر عملاً ضخماً ومنفتحاً على الشرق بما فيه الشرق الأقصى، بشكل لم يسبقه مثيل. في الواقع إنّ شخصية "محمد" في مسرحية ڨولتير ليست شخصية أخرى بالكامل كما ولا تمثّل الشخص ذاته بالكامل، وتندرج في المنطق اللاهوتي للنكران المزدوج للهوية. المرور عبر الآخر يؤدي في النتيجة إلى العودة نحو الذات.
الشرق في مفهوم ڨولتير هو كذلك حيّز الصراع بين الأديان التوحيدية وبنوع خاص هو مهد الديانة المسيحية، مما شكّل باستمرار موضع سخرية إذ عاد الفيلسوف إلى النصوص المقدسة وإلى الكتاب المقدس بنوع خاص، إلى الأصول البشرية لهذه النصوص وبالتالي إلى تحديدها الجغرافي والثقافي. في هذا السياق انتقد "أسلوبها الشرقي" المبالَغ فيه والمفخّم، كما انتقد التقاليد وهو "سيد المجتمع" الباريسي الحديث فاعتبر من هذا المنظار أنّ هذه النصوص قديمة وبربرية.
وما تبقى من لعبة الأقنعة هذه يدل بالمثل على الجانب الأساسي من الافتتان عند ڨولتير. أسلوب التزيين المعروف بــ"روكوكو" الذي اعتمده وراء المظاهر الكلاسيكية التي تَميّز بها، هو أسلوب قد نفهمه بمثابة تناقض ضمن الفراغ المحمّل بأشكال التزيين التي ينتهي بها الأمر بأن تستفيض بما يُعد جدلاً لا غير، في إطار تشويق معنوي رائع للسخرية. لجأ ڨولتير إلى المحاكاة الفلسفية المتكررة على غرار ما ورد في "ألف ليلة وليلة"، واعتمد المجاز بهوس في القصة فجاءت على شكل سرد للحلم مما جعلها نموذجاً يقتدي به بعض الذين سعوا إلى منافسة المحللين النفسيين (مثل "پوپر-لينكوس الذي اعتُبر الأنا الأخرى لــفرويد والذي اتخذ نهج ڨولتير نموذجاً له).
إن كان في المؤلفات التالية: "اللص الأعور" (Le Crocheteur borgne) أو "زاديغ" (Zadig) أو "أميرة بابل" (La Princesse de Babel)، أو في أي عمل آخر من أعمال ڨولتير التي تندرج في خانة الخيال الزاخر، مثّل الشرق الصورة الموازية للذات التي حلم بها ڨولتير، والمرآة التي تشوّه الزخرفة بحسب أسلوب "الباروك" اللاواعي عند المطربين في عصر التنوير- أي بتعبير آخر، مثّل الشرق ذاك "الشبيه" الذي نجده دوماً في الآخر.
الصورة: لوحة تمثّل ڨولتير