الكوميديا الإنسانية "سوف تكون للغرب بمثابة ألف ليلة وليلة": بهذه العبارة أعلن أونوريه دو بلزاك عن كتابه في رسالة شهيرة إلى السيدة هانسكا في أكتوبر/تشرين الأول 1834 واصفاً للمرة الأولى التصميم العام لهذا العمل الأدبي.
الكوميديا الإنسانية "سوف تكون للغرب بمثابة ألف ليلة وليلة": بهذه العبارة أعلن أونوريه دو بلزاك عن كتابه في رسالة شهيرة إلى السيدة هانسكا في أكتوبر/تشرين الأول 1834 واصفاً للمرة الأولى التصميم العام لهذا العمل الأدبي. هذه المقارنة تبيّن تأثير القصة الشرقية في كتابات بلزاك، بما تحمل من شهوانية، وبالبعد الفلسفي الذي تنطوي عليه، كما تعلن عن أهمية الطابع الشامل للعمل الأدبي المذكور الذي خُصّص للوصف الكامل للإنسان والمجتمع. وبعد مرور عدة سنوات، ساهمت الموازاة مع ألف ليلة وليلة في تأكيد التعقيد الذي شكّل المادة التي كوّنت أعمال بلزاك، والذي تميّز به الوضع الاجتماعي الراهن بالنسبة للمجتمع كما وصفته حكايات الشرق، حيث "تُحتجز المرأة ويُحصّن المنزل" (المقدمة في "ابنة حواء" Fille d’Eve، 1839). هذه المقارنات تبيّن الجدلية الكامنة بين الحضارات والتي تفتح المجال للأداء الخاص ببلزاك، وهو أداء يبدو محصوراً بفرنسا كما كانت عليه في ذلك الحين.
طيلة حياته، لم يتخطَّ بلزاك الحدود الأوروبية رغم أنّ بلدان أوروبا الشرقية (لا سيما روسيا وأوكرانيا حيث سافر للقاء حبيبته السيدة هانسكا) شكّلت بالنسبة له "همزة وصل بين أوروبا وآسيا" (النسيبة "باتّ" La Cousine Bette وهو عنوان جزء من "مشاهد من الحياة الباريسية") ونادراً ما تطرّق إلى الشرق في الكوميديا الإنسانية. وكان مزمعاً على تأليف "الفرنسيون في مصر" ليكون فصلاً من فصول "مشاهد من الحياة العسكرية" (Scènes de la vie militaire) غير أنّه لم يكتبه، مما يدل بحسب "غي بارتيليمي" (Guy Barthélémy) على "عدم اهتمام بلزاك بالشرق بحد ذاته بل اهتم بنوع خاص بالوسيلة التي يقدمها هذا الشرق في سبيل قراءة الغرب" (بحسب ما ورد في "معجم المستشرقين الناطقين باللغة الفرنسية"). والإشارة إلى الشرق في مؤلفات بلزاك كانت تهدف تحديداً إلى كشف عيوب حضارة الغرب، وفي هذا السياق تنبأت الكوميديا الإنسانية بانحطاط هذه الحضارة كما واستنكرت في الوقت عينه هذا الانحطاط.
المثل الأساسي بهذا الشأن هو رواية "الجلد المسحور" (La peau de chagrin) التي تدور حول طلسم شرقي يتمتع بقوة سحرية تقاوم التحليل العقلاني الخاص بالفلسفة الوضعية السائدة. بطل الرواية، ويدعى رفائيل دو ڨالنتين، يحصل على هذا الطلسم بعد أن خسر على طاولة القمار آخر فلس يملكه فقرر الانتحار بأن يرمي بنفسه في مياه نهر السين. لكنّ مصيره تحوّل عندماً كان هائماً على وجهه في باريس إذ دخل صدفة متجراً للتحف العتيقة يحتوي على أشياء كثيرة مختلطة في فوضى لا مثيل له، ويصف الكاتب هذا المتجر مطولاً ويرسمه على شكل مسرح أشباح: آثار كافة الحضارات الماضية التقت دون أي ترتيب، "على غرار مرآة تعكس وجوه كثيرة وكل وجه منها يمثل عالماً"، واجتمعت فيه أشياء لا قيمة لها جنباً إلى جنب مع أعمال فنية لا تقدّر بثمن. أخيراً عرض التاجر على رفائيل القطعة الأكثر قيمة، وهي جلد معلّق على الحائط يتمتّع بقوة يحقق بها جميع رغبات الشخص الذي يملكه ولكن هذا الأخير يخاطر بحياته: مقابل كل رغبة تتحقق، يقصر عمره، بحسب النص الذي نُقش على الجلد باللغة العربية. وقد حصل بلزاك على هذا النص، بفضل مستشرق هو البارون هامر-بورغستال (تعرّف عليه في ڨيينا عام 1835) فأدخل بلزاك صورة النص العربي في كتاب "الجلد المسحور" ابتداء من صدور الطبعة المصوّرة لدى دار النشر Delloye et Lecou عام 1838. أما في الطبعات السابقة، وتعود الطبعة الأولى منها لعام 1831، كان النص وارداً باللغة الفرنسية على شكل مثلث استوحاه من إحدى قصص ألف ليلة وليلة حيث يتوصل بطل القصة إلى فك رموز "النص الأصلي" بفضل إلمامه باللغة السنسكريتية؛ وعندما أدخل بلزاك صورة النص العربي أغفل تصحيح العبارة التي تشيرإلى اللغة السنسكريتية فبقيت في النص لغاية الطبعة الأخيرة...
أما النقطة الأساسية فليست صحة المرجع بل هي القيمة الرمزية لهذا الجلد: أتاحت للروائي بلزاك ضرب أمثلة حول نظريته الفلسفية بشأن الطابع الخطير، لا بل الطابع المميت الذي يكمن وراء الإفراط في العشق، وعلاوة على ذلك أتاحت له هذه القيمة الرمزية عرض نموذج يبيّن فشل العلم إزاء قطعة سحرية جاءت من حضارة مختلفة. بطل الرواية رفائيل هو عالم (لدرجة أن النص يعرّف عنه بمثابة مستشرق): لفتت انتباهه الأضواء التي يبعثها الجلد في الظلام فأراد أن يدرس خصائص المادة كي يبرهن "حسابياً" للبائع العجوز سبب هذه الظاهرة؛ ثم لم يتردد في التعبير عن شكوكه بشأن "المعتقدات الخرافية في الشرق". ولكنه عندما قام بحك الجلد بواسطة خنجر كي يفهم الطريقة التي نقش بها النص ، صدرت مقاومة من هذا الجلد مما تسبّب بنشوء الشك لدى الشاب. وما يتبع معلوم: استطاع هذا الجلد الغريب أن يلعب الدور الأساسي للعامل المشوّش المقوّض لأساسات المعرفة السائدة في تلك الحقبة، التي عجزت عن كشف السر وبنوع خاص هي لم تنجح في تحقيق رغبة رفائيل، وهي الوحيدة التي لم تتحقق، أي التكبير من خلال استخدام الطابعات الميكانيكية أو المحاليل الكيمائية؛ كما أننا نشاهد، قرب سرير البطل المنازع، فشل الطب إزاء مرض لا علاج له.
يكشف الطلسم عن فساد مجتمع مادي (على غرار كافة رغبات رفائيل التي يحققها الجلد) ويكشف في الوقت عينه عن وهم التأثير الإيجابي في العالم، أي الوهم الذي بات يشكل شعار أزمة القيم.
كما تظهر الجدلية بين الحضارات من خلال نص آخر نستعرضه هنا، أي "حب في الصحراء" (Une passion dans le désert)، قصة قصيرة صدرت عام 1830 وأدرجت لاحقاً ضمن "مشاهد من الحياة العسكرية" وكانت هذه القصة مخصصة لمجموعة "فرنسيون في مصر". وتدور القصة حول مغامرة عسكري شاب من جيش نابوليون، سُجن على أيدي العدو أثناء حملة مصر في عام 1798، و"أُرسل إلى الصحاري الواقعة إلى أبعد من شلالات النيل". في هذا المكان المجهول، لاذ السجين بالفرار في إحدى الليالي وبدأ وحيداً مسيرة التشرّد وسط الصحراء: وبذلك خرج من التاريخ (المسار التاريخي الكبير لفتوحات نابليون) وفي الوقت عينه خرج من الأرض التي يتم تحديدها من خلال المعرفة الجغرافية. الشرق الذي يتمثّل هنا بالصحراء هو عدم حقيقي تاه فيه الجندي الشاب الذي لا اسم له والمحروم من المعركة، ففقد وضعه الاجتماعي وإدراكه الحسي أمام هول المكان.
تبدو الصحراء هنا بمثابة تأكيد على الهزيمة الشاملة للثقافة وذلك بالمعنى الواسع للكلمة: معايير المعرفة، والتحديدات الاجتماعية والتاريخية والجغرافية، والمعارف التجريبية أو العلمية، على غرار ما يتبيّن في المغامرة البائسة التي يعيشها "أرمان دو مونتريڨو" (Armand de Montriveau) بحسب ما ورد في قصة "دوقة لانجي" (La Duchesse de Langeais). أراد هذا الشاب استكشاف صعيد مصر بهدف وجود حلول للمشاكل الجغرافية التي "تثير الكثير من الاهتمام في وسط العلماء"، غير أنّ مغامرته انتهت بالأسر وبعبور شاق للصحراء دون أن يترك للجنرال سوى "الذكريات التي لا شكل لها". قصة "عشق في الصحراء" (Une passion dans le désert) ترسم هذا العبور على صورة تجربة حقيقية للّانهاية، ضمن حيّز تنقلب فيه المعايير: في هذا المكان بالذات يعيش الجندي الشاب علاقة حب، عشقه في الصحراء، ولكن مع نمرة.
لم يعرف بلزاك الشرق ولكنّه جعل منه تعبيراً مجازياً عن إزاحة الستار، واستخدمه بمثابة مؤشر كيمائي له مفعول مثل ورق عبّاد الشمس الذي "يكشف" حالة الأزمة التي يعيشها المجتمع في الغرب.
الصورة: أونوريه دو بلزاك، بعدسة بيار پوتي (Pierre Petit)، 1880.