جاين ديولافوا (1851-1916)

استحقت جاين ديولافوا (1851-1916)، كما زوجها مارسيل ديولافوا (1844-1920)، أن يدرج اسمها ضمن حوليات علم الآثار. وقد أصبح كل منهما عالماً في الآثار ببلاد فارس ضمن البعثة الاستكشافية الأولى في فترة 1881-1882 ثم في 1884-1886 لإطلاق عمليات التنقيب الأولى على نطاق واسع في شوشان.

"رفيقان لا مجال للتفريق بينهما"، هكذا اعتُبرا في نظر المؤلف الموسيقي "كاميل سانت-سانز" وفي نظر أفراد المجتمع الباريسي الذين كانوا يترددون إلى قاعة استقبال الثنائي، الواقع في شارع "شاردين" في محلة "پاسّي" بباريس. أصبح كل منهما عالماً في الآثار ببلاد فارس ضمن البعثة الاستكشافية الأولى في فترة 1881-1882 ثم في 1884-1886 لإطلاق عمليات التنقيب الأولى على نطاق واسع في شوشان. خلال البعثة الأولى التي قاما بها على نفقتهما الخاصة، جابا بلاد فارس ركوباً على الخيل قاطعين آلاف الكيلومترات بين شمال البلاد وجنوبها من أجل التعرّف على التراث الإيراني الهائل ووضع تقويم له بواسطة التصوير الفوتوغرافي؛ التقطت جاين الصور بنفسها مما شكّل توثيقاً ذات جودة عالية في الإصدارات التي حققتها وتلك التي حققها زوجها مارسيل. حظيت بعثة شوشان بدعم رسمي ومالي من متحف اللوڨر وكذلك من وزارة التعليم العام الفرنسية التي وُضعت في حينها تحت سلطة "جول فيري"، وكان هذا الأخير يراعي مصلحة فرنسا في مثل هذا المشروع، على المستوين الدبلوماسي والاقتصادي. كما ووافق الشاه نصر الدين على عمليات التنقيب في الموقع المذكور. كان مارسيل ديولافوا من خريجي مدرسة البوليتكنيك ومهندساً متخرجاً من المدرسة الفرنسية العليا للجسور والطرق، واستعان بشابين الأول مهندس يدعى "بابين" والآخر عالم بالطبيعة يدعى "هوساي" وذلك للقيام باستكشاف آثار شوشان، وتشكل بالتالي فريق عمل فعلي بوسعه إدارة أعمال تنقيب على نطاق واسع باتباع نهج عقلاني. أما جاين فأصبحت "عالم آثار" في الميدان وكذلك "معاوناً" لزوجها مارسيل، على حد تعبيرها، واهتمت بنوع خاص بكافة أعمال الفوتوغرافيا وبإدارة العديد من الورش بالإضافة إلى تدوين المذكرات حول أعمال التنقيب. وتبنّت بنوع خاص إدارة استخراج الإفريزات الرائعة بالنقوش التي تمثّل الأُسود ورماة السهام، ووضعت بياناً منظماً لحجارة الطوب المزخرفة بالميناء وذلك ارتقاباً لإعادة تشكيلها لاحقاً في متحف اللوڨر لتشهد على مجد الفن الأخميني، كما واستقبل هذا المتحف تاجاً نقشت عليه الثيران، كان يكللّ أحد الأعمدة الهائلة في الأبادانا (قاعة العرش) بقصر الملك أرتاكسركس.

بالإضافة إلى ذلك، فجّرت بلاد فارس موهبة الكتابة عند جاين، وتأكدت هذه الموهبة بعد عودتها إلى فرنسا. ابتداءً من عام 1883 نشرت في مجلة "جولة حول العالم" (Le tour du monde)، علاقة الرحلة الأولى التي صدرت تحت عنوان "بلاد فارس، كلديا وعيلام" (Perse, la Chaldée, la Susiane,)، دار النشر Hachette، 1887، ولاقت إعجاباً كبيراً لدى القراء، وكذلك بالنسبة لــ"مذكرات حول عمليات التنقيب في شوشان" (A Suse, journal des fouilles) الصادر في عام 1888. ظهرت من خلال كتاباتها بمثابة مخبرة موهوبة وكذلك عالمة اجتماع وعالمة أنتروبولوجيا وصحافية استطاعت أن تصف لجمهور القراء الشروط المأساوية في حياة وعمل هؤلاء الأوروبيين الذين سعوا إلى سبر الشرق للكشف عن أصوله. وتابعت فيما بعد مسارها الأدبي حتى مماتها، وافتتحته بإصدار "برياتيس" (Paryatis) (1890) وهي رواية تاريخية استحقت جائزة الأكاديمية الفرنسية، حيث اتخذت الكاتبة مدينة شوشان مسرحاً لإعادة إحياء الملكة الشنيعة التي ذكرها الفيلسوف والمؤرخ اليوناني بلوتارخس. أما زوجها مارسيل فأصدر من جهته "الفن القديم لبلاد فارس" (Art antique de la Perse) في خمسة مجلدات نشرت من عام 1884 حتى عام 1889، فأنطلق بذلك مساره العلمي اللامع الذي تكلّل بانتخابه عضواً في أكاديمية المدوّنات والآداب في عام 1895؛ الإيقونوغرافيا التي تشكلت من الصور الفوتوغرافية التي التقطتها جاين نالت إعجاب كافة العلماء على المستوى الدولي.

توسعت شهرة الثنائي ديولافوا في تاريخ 20 أكتوبر/تشرين الأول 1886 بمناسبة افتتاح القاعات المخصصة في متحف اللوڨر للحضارة الفارسية حيث كرّم الرئيس الفرنسي "كارنو" جاين ومنحها وسام جوقة الشرف لمساهمتها في أعمال التنقيب عن الآثار في شوشان. ومن المحتمل أن تكون قد كُرّمت في نفس المناسبة باعتبارها ناضلت في الحرب بين فرنسا وبروسيا إذ أنّها بعد زواجها مباشرة وضعت اللباس العسكري الخاص بالقنّاص والتحقت مع زوجها مارسيل بجيش منطقة الــ"لوار" الفرنسية- مما شكّل اللحظة الحاسمة التي وضعت فيها للمرة الأولى لباس الرجال دلالة على التزامها بحياة ناشطة تجمع بين المغامرة والإبداع. والتجارب التي عاشتها في بلاد فارس جعلتها تتثبت في خيارها بالنسبة للباس الذي واظبت على وضعه بعد عودتها إلى باريس مما جعل منها امرأة "متحررة" شهيرة، نشطت فكرياً فكانت كاتبة ومحاضِرة وصحافية كما أنّها ساهمت في ابتكار جائزة "فيمينا" (Femina). سلكت طريقاً مهنياً مستقلاً عن مهنة زوجها وتغلبت بالتالي على الإحباط من جراء عدم استطاعتها متابعة الأعمال التي بدأتها في شوشان. في الواقع، بعد فترة طويلة من الريبة، أبعدت السلطات السياسية الثنائي ديولافوا وفضّلت جاك دو مورغان (Jacques de Morgan) (1857-1924)، وكان بدوره مهندساً أوكلت إليه وزارة التعليم العام الفرنسية في عام 1889 القيام بمهمة في بلاد فارس وتحديداً في شوشان. بعد نجاحه في إدارة قسم التحف العتيقة المصرية من عام 1892 لغاية عام 1897، تم تعيينه مسؤولاً عن بعثة الآثار الفرنسية في بلاد فارس وهي تعتبر أكبر مشروع نظمته دولة أوروبية في مجال الآثار.

وتسنت أمام جاين وزوجها مارسيل فرص أخرى للتعاون إذ قاما معاً بالعديد من الرحلات الدراسية في إسبانيا والبرتغال، فأصدر مارسيل "الفن في إسبانيا والبرتغال" (l’Art de l’Espagne et du Portugal) (1903) في حين أصدرت جاين مونوغرافيات حول بعض الأقاليم الإسبانية بالإضافة إلى سيرة حياة إيزابيلا الكبرى، نشرت في عام 1920 بعد وفاة الكاتبة. لدى اندلاع الحرب في عام 1914، طلب الكولونيل ديولافوا استعادة الخدمة ضمن هيئة الهندسة فعيّن في المغرب تحت سلطة الحاكم العام الجنرال ليوتاي. ومثلما فعلت جاين سابقاً في عام 1870، لم تتردد هذه المرة أيضاً في مغادرة باريس برفقة زوجها بتاريخ 10 سبتمبر/أيلول عازمة بذلك على تأكيد مشروعها المتعلق بتوظيف النساء في الجيش. في الرباط، قدّم مارسيل ديولافوا للجنرال ليوتاي اقتراحاً باستكشاف آثار موقع جامع حسن، وهو اقتراح يندرج ضمن سياسة الحاكم العام الفرنسي المتعلقة بتقييم التراث التاريخي الهائل في المغرب. وكان مارسيل منشغلاً بعمله لدى هيئة الهندسة فعهد بإدارة ورشة الآثار إلى زوجته جاين التي نجحت في إخراج مجموع أنقاض الجامع الذي يعود للقرن الثاني عشر (مارسيل ديولافوا، "جامع حسن في الرباط"، باريس، 1920). إلى جانب ذلك، وفي نطاق استكشاف موقع "وليلي" (Volubilis) في المغرب، طُلب من مارسيل وضع خطة مشروع لأعمال التنقيب. أما جاين فساهمت في العمل ضمن المستوصف المحلي والإسعاف مما تسبب بوفاتها في پومبرتوزا بجوار مدينة تولوز بفرنسا بتاريخ 25 مايو/أيار 1916. في أغسطس/آب من العام نفسه، التحق المقدم مارسيل ديولافوا بجبهة الشمال واستعاد الخدمة تحت إمرة الجنرال فوش.

 

الصورة : جاين ديولافوا. بعدسة أوجين بيرو (Eugène Pirou)، 1884