المعاهدة التي تم التوقيع عليها بين ليون بلوم Léon Blum [رئيس الوزراء الفرنسي] وهاشم الأتاسي [رئيس الكتلة الوطنية السورية] كان بوسعها، لو تم إقرارها، أن تفتح صفحة جديدة في العلاقات بين فرنسا وسوريا اللتين باتتا حليفتين على قدم المساواة.
انتدبت عصبة الأمم في عام 1920 فرنسا للوصاية على سوريا ولبنان. وكان من المفترض أن يشكّل الانتداب مرحلة إنتقالية تؤدي بهاتين الدولتين إلى الاستقلال، على غرار ما حصل في العراق منذ عام 1932 حيث كانت هذه الدولة تحت الانتداب البريطاني بتكليف من عصبة الأمم. ولكنّ فرنسا، وهي صاحبة الروح الوطنية الانتقامية، كانت قد التزمت بالمغامرة في المشرق وعيناها مسلّطتان على لبنان. وكان بوسع الأخوين تارو Tharaud الكلام في عام 1923 عن "حرب صليبية جديدة" وتخصيص كتابهما "طريق دمشق" للجنرال هنري غورو Henri Gouraud الذي كان يدير أمور سوريا من مقرّه في بيروت. وكان جلّ اهتمام فرنسا موجّهاً إلى "لبنان الكبير"، في حين قُسمت سوريا إلى خمس دويلات شكّلت كيانات مختلفة. وهذا التمزيق في الأراضي لم يستطع أن يمنع اندلاع ثورة 1925-1926 التي تم قمعها بالدم في دمشق ودويلة جبل الدروز، وذلك رغم الاحتجاجات التي صدرت عن عصبة الأمم.
فازت فرنسا عسكرياً ولكن القومية السورية بقيت قوية وباتت ترفع العلم ذات النجمات الخضراء الثلاث رمزاً لدمشق وحلب وكل مدينة سورية قد تلتحق بسوريا المستقلة (وهو العلم الذي استعاده الثوار السوريون في عام 2011 ليرفعوه ضد نظام الأسد). بعد مرور عشر سنوات على المأزق السياسي، قام إضراب عام في سوريا مما دفع بفرنسا إلى القبول أخيراً، في مارس/آذار 1936 بالمفاوضات من أجل التوصل إلى إبرام معاهدة تضع حداً للانتداب. ترأس هاشم الأتاسي الوفد السوري إلى باريس وكان مناضلاً قومياً أصله من حمص، سُجن في عام 1930 أشهراً طويلة على يد سلطات الانتداب. غير أنّ فوز الجبهة الشعبية الفرنسية بالانتخابات في مايو/أيار 1936 كان العنصر الوحيد الذي أعطى وزناً للمفاوضات. في الواقع كان بيار فيينو Pierre Viénot، وزير الدولة للشؤون الخارجية الفرنسية في حكومة ليون بلوم، موالياً لمبدأ الوحدة السورية ضد رأي أعضاء اللوبي الاستعماري والمسؤولين العسكريين الذين سرعان ما قاموا بتعبئة زبائنهم في صفوف "الأقليات المختلفة".
رغم أعمال التقويض هذه، وقّع كل من بلوم والأتاسي على "معاهدة صداقة وتحالف" بتاريخ 9 سبتمبر/أيلول 1936، في القاعة المعروفة بــ"قاعة الساعة" في مقر وزارة الشؤون الخارجية بباريس. سوريا الموحدة بكافة أجزائها التزمت بحلف مع فرنسا لمدة 25 سنة على أن تحتفظ فرنسا بقواعدها العسكرية في سوريا لمدة خمس سنوات. ولدى الإعلان عن التوقيع على المعاهدة قامت مظاهرات حاشدة للترحيب بالحدث، في دمشق وحمص وحماه وحلب وتزيّنت الشوارع بالألوان القومية ("النجمات الثلاث" الخاصة بالوحدة السورية) وبالألوان الفرنسية.
في ديسمبر/كانون الأول 1936، صدّق البرلمان السوري على المعاهدة مع فرنسا ورُفع الأتاسي إلى منصب رئيس الجمهورية. ولكنّ بلوم غادر مقر رئاسة مجلس الوزراء في يونيو/حزيران 1937 قبل أن يستطيع إقناع البرلمان الفرنسي بالموافقة على المعاهدة. في الواقع، قام اللوبي الاستعماري بالتضامن مع اليمين المحافظ بحملة قوية ضد نص المعاهدة، وعارضت "مجلة المسائل الاستعمارية البحرية" الوحدة السورية وذلك باسم المبدأ "فرِّق تسُد" الذي نوّهت به بكل سلامة نية إذ ورد في هذه المجلة ما يلي:"إنّه لخطأ فادح أن نعتبر العدائية المتصلبة لليهود والعرب تجعل وضع بريطانيا في فلسطين هشاً. بل على العكس، هذا التناقض يعطي الذريعة المرجوة لتبرير سيطرتها وجعل هذه السيطرة مستدامة".
تابع الأخوان تارو مواضيعهما المناهضة للقومية وألّفا كتاباً بعنوان "إنذار في سوريا" نُشر بعد إقامتهما في سوريا خلال صيف 1937. ولاقى الموالون للمعاهدة صعوبة في توصيل صوتهم لاسيما وأنّ فرنسا أبرمت معاهدة صداقة مع تركيا في يوليو/تموز 1938 وصدّقت عليها دون إبطاء. وبهدف استرضاء أنقرة، في إطار جو تفاقم المخاطر في أوروبا، وافقت باريس على رسو القوات التركية في إقليم أنطاكيا السوري. في يونيو/حزيران 1939، ضمّت تركيا هذا الإقليم المعروف بــ"لواء الاسكندرون" إلى أراضيها وذلك تحت اسم "هاتاي". هرب عشرات الآلاف من العرب والأرمن من هذا الإقليم والتجأوا إلى سوريا. أما الأتاسي فأضحى دون نفوذ وغادر الرئاسة في يوليو/تموز 1939. علّق المفوّض السامي الفرنسي الدستور السوري واتخذ القرار بحلّ البرلمان. وبعد مرور شهرين على ذلك، دخلت فرنسا الحرب العالمية الثانية وتواكب الأمر مع فرض الحصار على المشرق. وبذلك ضاعت فرصة تحالف فعليّ بين فرنسا وسوريا. كان لا بد من انتظار حلول العام 1943 كي تعترف فرنسا الحرة رسمياً باستقلال سوريا (ولبنان)، وفي أبريل/نيسان 1946 غادرت القوات الفرنسية سوريا بشكل نهائي. تم هذا الانسحاب تحت ضغط حذِر من جانب المنظمة الجديدة للأمم المتحدة، دون إبرام أيّة معاهدة وبالتالي دون أيّة ضمانة لعلاقة مميّزة مع فرنسا. بعد مرور عشر سنوات على الآمال التي رافقت المعاهدة بين بلوم والأتاسي، انتهت مغامرة فرنسا في سوريا مع الشعور بالمرارة لدى كل من الطرفين.
الصورة: وفد الكتلة الوطنية السورية يوقّع على المعاهدة في عام 1936.
.