انطلق رواج حمّامات البخار من إنكلترا ليصل إلى فرنسا، في ظل الإمبراطورية الثانية. وبالإضافة إلى منافعه الصحية، وجد المجتمع الفرنسي فيه مكاناً جديداً للمؤانسة.
انطلق رواج الحمامات التركية من انكلترا ومنها وصل إلى فرنسا، في ظل الإمبراطورية [الفرنسية] الثانية [1852-1870]. في منتصف القرن التاسع عشر، انشغف الدبلوماسي الاسكتلندي الشاب داڨيد أوركهارت (David Urquhart) الفيلانتروب [أي محب البشرية وفاعل الخير]، بالحمامات العامة في العاصمة التركية. اعتبر أنّ حمّام البخار الجماعي وسيلة من شأنها تحسين الوضع الصحي للعمال، وكذلك تعزيز التخالط الاجتماعي في إنكلترا. ولدى عودته من اسطنبول، أخذ العزم في عام 1856 على بناء أول حمّام عام، في مدينة "كورك" بإيرلندا، وحمّام آخر في مانشستر عام 1859، وآخر في لندن عام 1862؛ وما لبث أن تبع ذلك إنشاء عشرات الحماّمات الأخرى في كافة أنحاء البلاد.
شكّلت هذه الحمامات لاحقاً الحافز لبوادر مماثلة في فرنسا. البادرة الأولى جاءت من جانب الطبيب شارلز ديبراز الذي بنى في عام 1868 حماماً في مدينة "نيس" الفرنسية، "بحسب أفضل الخرائط التي بُنيت بموجبها الحمامات العديدة في إنكلترا". ومراودة هذا الحمام اعتُبرت من وسائل التسلية، كما وكان الهدف منه التهذيب الأخلاقي للطبقة العمالية بإدخال "لذّات شريفة بين العمال بديلاً عن الملاهي الليلية وسائر الأماكن السيئة المعشر". وأُنشأ حمّام مماثل في العام اللاحق بمدينة "ليون"، وبعد ذلك حمّام شاسع في عام 1881 بمدينة ڨيشي وكان مجهزاً بكل وسائل العلاج بالمياه المعدنية.
في الواقع، شاع الحمّام التركي قبل ذلك في المنازل التي كانت تسكنها النخبة من المجتمع الباريسي. فالأمير جيروم نابوليون [ابن أخ الإمبراطور نابوليون بونابرت] شيّد منزلاً (1855-1858) في جادة "مونتاني" بباريس، وفقاً للطراز الذي عُرفت به مدينة بونبباي الإيطالية في الإمبراطورية الرومانية، وعند وضع خريطة المنزل، أدخل المهندس المعماري "ألفرد نورمان" "حمامات تركية". واللوحة الشهيرة "الحمّام التركي" للرسام "جان-أغوست إينغراس" التي أنهى رسمها في عام 1859 كانت مخصصة في الأصل للأمير المذكور، ولكنها لم تبقَ بين يديه سوى بضعة أسابيع قبل أن تنتقل إلى يدي خليل باي العثماني الذي اشتهر بجمع الأعمال الفنية وعُرف بهوايته للفن الإباحي (erotica). وهذه اللوحة للرسام إينغراس هي من صنع الخيال، استوحاها الفنان من "رسائل من الشرق" التي كتبتها الأرستقراطية لايدي مونتاغيو ونُشرت في نهاية القرن الثامن عشر ثم أُعيد نشرها عدة مرات، ورد فيها بنوع خاص "وصف حمّام النساء في مدينة أدرنة" (تركيا).
في عام 1876 اشترى المهندسان المعماريّان "ألبير دوكلو" و"وليام كلاين" قطعة أرض في باريس تقع في الرقم 56 من شارع "Rue Neuve des Mathurins" حيث شيّدا المركز الرئيسي لوكالتهما. في الطابق الأرضي من البناء الذي أصبح لاحقاً مجموعة من المساكن، أنشئا حمّامات "تركية-رومانية" اهتما باستثمارها. بعد قصر "أوركهارت" [في اسكتلندا]، شكّلت الحمّامات التركية الامتداد للحمّامات الرومانية واعتُبر العثمانيون في هذا المجال بمثابة الناقلين لممارسة شاعت في العصور القديمة فأدرجوها في العصر الحديث، ومن هنا أتت تسمية "الحمّامات التركية-الرومانية". النمط الجديد قام على أساس فصل الرجال عن النساء، غير أنّ التجهيزات هي واحدة من كلا الجهتين وما يميّز بينهما هو المداخل إذ كانت منفصلة ما بين مداخل للنساء ومداخل للرجال. واعتنى المهندسان بواجهة المبنى التي شيّدوها على الطراز الموري (أي البربري) وما زالت حتى اليوم ظاهرة للعيان في حين لم يبقَ أي أثر من الداخل لأنّه رُمّم ليصبح محلات تجارية.
في غضون مدة قصيرة أصبحت الحمامات التركية - الرومانية (المعروفة بالتسمية "الحمّام") في الأحياء الجديدة غربي باريس، المكان الذي يتواعد فيه الباريسيون. ومنذ 1880 امتلك فردينان لو لاسابس مكاتب في المبنى. وكتبت الصحف باعتزاز لدى قيام المعرض الدولي في عام 1878 ما يلي: "في هذا القصر الرائع من الطراز الموري، اجتمعت أدق معالم الأناقة والرفاهية". وأشارت إلى أنّه، أبعد من المزايا الصحية للحمّام، هو يساهم في "إراحة الجسد" وفي "استراحة الروح" في الوقت عينه. وهو يشكّل بنوع خاص مكاناً للمؤانسة على مستوً عالٍ. ومن الشخصيات البارزة التي ارتادت الحمّام بانتظام، نذكر بنوع خاص "البارون هوسمان"، و"غامبيتا"، و"دوق أومال" و"دوق مونتبانسيه" و"البارون روتشيلد" و"الأمير نابوليون" و"الكونت بوتوكي" و"البارون سايّار". كما وزار المكان ناصر الدين شاه إمبراطور إيران، وإمبراطور البرازيل الذي طلب صورة فوتوغرافية للمكان من المصوّر الفوتوغرافي "فيليكس نادار". وبالتالي، نحن بعيدون عن روح الفيلانتروب فاعل الخير الإصلاحيّ الذي كان رائداً في إطلاق الحمّام التركي في أوروبا.
في عام 1926 أضيف حمّام إلى جانب جامع باريس بعد تشييد هذا الأخير بمدة قصيرة. وفي عقد الستينيات خلال سنوات ما بعد 1968، أضحى المكان مقصداً مهماً للمناضلين من أجل قضية المرأة في العاصمة الفرنسية، ليصبح فيما بعد مقصوداً من كافة الفئات.
الصورة: "الحمّام":حمّامات تركية-رومانية، الواقع في Rue Neuve des Mathurins 56، عام 1876