ماري جوزيف لاغرانج (١٨٥٥-١٩٣٨)

يُعتبر الدومينيكاني ماري جوزيف لاغرانج، مؤسس المدرسة الفرنسية للكتاب المقدس والآثار في القدس، أحد أبرز مؤسسي التفسير الكاثوليكي الحديث. وقد كان لعمله الفضل في إعادة الفكر الكاثوليكي حول الكتاب المقدس إلى مكانته اللائقة في الأوساط العلمية، ولا يزال يحظى بالاحترام في أوساط المسيحيين.

في القرن التاسع عشر، العلم الحديث يُشكِّل تحديًا للإيمان

 كما هو الحال غالبًا مع الأعمال العظيمة، بدأ كل شيء بتحدٍّ. وُلد لاغرانج في بورغ-أون-بريس عام ١٨٥٥، وتابع دراساته الكلاسيكية في أوتون قبل أن يُحضِّر لنيل درجة الدكتوراه في القانون في باريس. من خلفية كاثوليكية، انضم إلى الرهبنة الدومينيكية بعد فترة وجيزة في معهد إيسي-لي-مولينو. أمضى معظم تعليمه الديني في سالامانكا بإسبانيا، حيث تلقى تعليمًا توماويًا متينًا. هناك، أبدى اهتمامًا خاصًا بالكتاب المقدس واللغات القديمة. أدى ذلك إلى إرساله إلى فيينا عام ١٨٨٨ لدراسة اللغات السامية (السريانية، والآشورية، والهيروغليفية المصرية، والخط الهيراطيقي).

يدرك هناك مدى التحدّي الهائل الذي تمثّله التقدّمات التي أحرزتها العلوم التاريخية الحديثة. فمنذ فكّ شامبليون لرموز اللغة المصرية القديمة عام 1822، واكتشاف حضارة بلاد الرافدين ولغاتها في منتصف القرن التاسع عشر، لم يعد بالإمكان الاكتفاء بقراءة ساذجة وحرفية للكتاب المقدّس، إذ إن تسلسله الزمني بات موضع تشكيك جذري. في تلك الفترة يسود التيار الوضعي، وتكون الإغراءات كبيرة وخاصة لدى البروتستانت، مؤسّسي علم الآثار الكتابي للتحقّق ميدانياً ممّا إذا كان الكتاب المقدّس يقول الحقيقة أم لا. لقد كان هذا التشكيك جذرياً، وأدّى بباحثين مثل إرنيست رينان (1823-1892)، أستاذ اللغة العبرية في كولّيج دو فرانس، إلى رفض التعليم الكاثوليكي التقليدي في كتابه حياة يسوع (1863). هذا التشكيك، الذي حمله البروتستانتية الليبرالية، امتدّ ليصل إلى الأوساط الكاثوليكية، كما يُظهر ذلك مثال الأب ألفريد لوازي (1857-1940)، أستاذ في المعهد الكاثوليكي في باريس، مُحدثاً زلزالاً حقيقياً عُرف لاحقاً باسم «الأزمة الحداثية».

الحدس المؤسِّس: التقريب بين الوثيقة والأثر

وفي هذا السياق المضطرب تم إرسال لاغرانج من قبل رؤسائه الدومينيكيين إلى القدس بالاتفاق مع البابا ليو الثالث عشر وذلك لإنشاء مدرسة تطبيقية للدراسات الكتابية على غرار المدرسة التطبيقية للدراسات العليا والتي أسست في باريس عام ١٨٦٨ من قبل فيكتور دورو. لم تكن لديه الإمكانات اللازمة لإنشاء جامعة حقيقية. من جهة أخرى كان يريد تشكيل فريق من الباحثين المشغوفين مثله بالكتاب المقدس وعلى استعداد لمواجهة الأسئلة الجديدة التي يطرحها العلم.

وقد استفاد من وجود رجال دين فرنسيين شبان في القدس يدرسون في الخارج هربا من التجنيد الإجباري بعد قانون فريسينت لعام ١٨٨٩، المعروف باسم "قانون الكاهن ذو حقيبة الظهر"، الذي ألغى إعفاءات رجال الدين من الخدمة العسكرية، مما مكن لاغرانج من  الاختيار بسرعة كبيرة وتشكيل مجموعة من رجال الدين الشباب في مختلف العلوم القادرين على تنوير وفهم الكتاب المقدس: تاريخ وعلم الآثار في الشرق الأدنى القديم (لويس هوغفنسنت)، جغرافية فلسطين (فيليكس هابيل)، الإيبغرافيا (رافائيل سافيناك)، لغات وحضارات مجتمعات الشرق الأوسط (أنطونين جوسين). وسينضم إليه آخرون في وقت لاحق مثل العالم بالأشوريات إدوار دهولم. ولذلك فهو يأخذ التحدي المتمثل في أخذ إنجازات العلم على محمل الجد، معتقداً أن "الإيمان يجب ألا يخشى الحقيقة".

نهج جديد للتفسير: الطريقة التاريخية

مع هذا الجيل الأول من المتخصصين، سوف يسافر لاغرانج في مختلف بلدان الكتاب المقدس، أبعد بكثير من فلسطين: عبر الأردن، سيناء ومصر، حدود الجزيرة العربية، الهلال الخصيب (سوريا، العراق). الحدود الواسعة للدولة العثمانية وإقدام هذا الجيل الأول سمحا بتنظيم جولات واسعة النطاق، على ظهور الخيل أو الجمل، لتحديد مواقع الكتاب المقدس، والبحث بقايا اثرية، وتسجيل المباني القديمة أو طبعات للنقوش. بسرعة كبيرة، اعتمدوا التصوير الفوتوغرافي لتوثيق وتقديم تقارير عن اكتشافاتهم. نجدهم يوما في البتراء، وأخر في تدمر، وهم على استعداد لمواجهة المناخ القاسي وخطر السرقة من قبل اللصوص. وسرعان ما جذبت حماسهم وكفاءتهم انتباه العلماء. وكان من بين أكثر المشاريع جرأة في هذه الفترة البعثة الأثرية إلى شمال شبه الجزيرة العربية، بقيادة جاوسن وسافيناك قبل الحرب العالمية الأولى.

معركة صعبة في ظل العالم الكاثوليكي

سرعان ما حدد لاغرانج أسلوبه والذي كشف عنه في المحاضرات وفي كتابه الصادر عام ١٩٠٤ بعنوان الطريقة التاريخية.  يشير إلى أن الكتاب المقدس  يلجأ لأنواع أدبية وبالتالي لا يزعم أنه يسرد الوقائع بطريقة حرفية. هذا لا يمنع هذه النصوص المقدسة من أن تكون نصوص مستوحاة، يمر الله عبر وساطة بشرية لإيصال رسالة. وأخيراً، بعض القناعات القديمة مثل نسبة كتاب الخماسي إلى موسى ممكن التشكيك بها لأنها ليست جزءاً من نواة الإيمان. هذه الجرأة، التي مهدت الطريق للتفسير الحديث، أكسبته معارضة قوية في الأوساط الكاثوليكية المحافظة وبعض التوبيخ من روما. وطلب منه الكرسي الرسولي، على سبيل المثال، أن يتخلى عن نشر شرحه عن سفر التكوين، الذي كان مجلده الأول جاهزا في عام ١٩٠٥، وأن يتخلى عن دراسة العهد القديم، لما يطرحه من إشكالات، لصالح العهد الجديد. وقد أطاع لاغرانج هذا الطلب بروح عالية من الطاعة للكنيسة الكاثوليكية التي كان يحبها، لكنه عانى كثيرا. ورغم ذلك، استمرّت أعمال فريقه، التي نشرت في المجلة الكتابية التي أسسها في عام ١٨٩٢.

الاعتراف المتأخر

في عام ١٩٢٠، تم الاعتراف رسميا بقيمة عمل لاغرانج ومدرسة الكتاب المقدس من قبل أكاديمية النقوش الآداب الجميلة، التي طلبت من المدرسة في  القدس أن تصبح رابع مدرسة أثرية فرنسية في الخارج، بعد تلك التي في أثينا (١٨٤٦) وروما (١٨٧٥) والشرق الأقصى (١٨٩٨). بالنسبة لـلاغرانج ، إنه عزاء كبير بعد المحن التي مرّ بها وأيضًا تأكيداً على الجودة العلمية لأعماله و مدرسته التي تسمى الآن بالمدرسة الفرنسية لدراسة الكتاب المقدس والآثار بالقدس.  وسوف يأتي الاعتراف الكنسي في وقت لاحق، مع منشور البابا بيوس الثاني عشر Divino afflant espiritu في عام ١٩٤٣ الذي سيضفي طابعا رسميا على أطروحات لاغرانج حول الأنواع الأدبية وإلهام الكتاب المقدس، وحتى أكثر من ذلك من خلال الدستور العقائدي المتعلق بالوحي الإلهي Dei Verbum للفاتيكان الثاني (١٩٦٥).

ماري جوزيف لاغرانج ترك وراءه عملا علميا هائلا. توفي في عام ١٩٣٨. ولا يزال عمله مستمرا. وتحقق الكنيسة الكاثوليكية حاليا في مسألة ضمه إلى قائمة القديسين.